كل مدينة تجر خلفها تاريخا عريقا هي مدينة باركتها يد الجغرافيا، والإنسان في رحلته الطويلة على الأرض خضع دائما لمشيئة المكان، عن دمشق والقاهرة وبغداد، إحدى أثرى وأعمق المدن تاريخا في الشرق الأوسط، 3 عواصم شكلت للإنسان بيتا باختلاف العصور والأزمنة، كل مدينة منها شق صدرها نهر فنبت لها قلبان، يمرض واحد فينبض الثاني كمولّد حياة احتياطي، يضع الموت رسالته العدمية في هذه المدن، يصيبها بالحروب والفقر والمرض ونوائب الدهر من كل أطرافها لكنه لا يتفشى بها ولا يقطع إيمان الناس بأرضها، امتثال التاريخ لمشيئة الجغرافيا، هذا هو الدرس الذي يمكن أن نتعلمه من خلود هذه المدن وأبديتها.
الأرض المزهرة
سماها الآشوريون دَمَشْقا، بينما كان الآراميون يسمونها ديماشقو أو دا مشقا، وبينما تذهب بعض الروايات التاريخية إلى أن المعنى هو الأرض المزهرة لخصوبة أرضها، تذهب روايات أخرى غير محققة وتأخذ الطابع الشعبي الخرافي إلى أن اسم المدينة مركب من مفردتين، دم وشقى، أي سقى بالدم في دلالة عن أول جريمة في التاريخ حدثت في هذه المدينة، التي قتل فيها قابيل (قايين) أخاه هابيل، ويؤكد بعض الباحثين أن دمشقا بمعنى الحديقة الغناء قد وردت بالهيروغليفية في آثار تل العمارنة بمصر، ومهما اختلف الأصل في المعنى فإن دمشق تحمل من اسمها نصيب المكان، يؤمن أهلها أنها أقدم عاصمة في العالم، وفي الحقيقة التاريخية شهدت بعض الحفريات الأثرية على وجود أدوات وآثار للإنسان الحجري فيها.
نهر بردى الذي يصب عروقه في أرضها جعل منها مدينة عامرة بالخير والحياة على مر القرون والسنين، كل الحضارات التي قامت في هذه المنطقة منذ الفينيقية وحتى الأموية عرفت قيمة دمشق، وجعلت منها رمزا للقوة والمجد، كل سلطة عرفت أن ميلادها أو موتها معلق بحكم دمشق، من يعتلِ قاسيون فحكمه بالناس قائم، ومن يسقط عن رأسه تذهب به الأيام ولا يعود.
قا هي رع
«قا هي رع» هكذا كان قدماء المصريين ينطقون القاهرة، أي أن القاهرة التي تعرف كثيرا بالتاريخ الإسلامي أنها المدينة التي تقهر أعداءها، لها أصل أسبق في اللغة الهيروغليفية، لغة قدامى المصريين، وكانت قا تعني الشبيه، أما هي فتعني النعيم والجنة، والقسم الأخير رع فهو بمعنى الشمس، بينما في تحقيق آخر يقول سامح مقار ناروز مؤلف كتاب اللهجة العامية وجذورها المصرية، أن القاهرة قديما كانت تسمى «كاهي رع» بمعنى موطن الإله رع، وباختلاف الرأيين، فإن القاهرة دائما لها معنى الجنة، لأنها أحد أول مواطن الحياة لإنسان هذه الأرض.
ومن ينزل هذه الجنة على طرفي النيل سيعرف طريقه إلى عين شمس (أون)، التي تقع في شمال قاهرة اليوم، والتي كانت تسمى هليوبوليس عند الإغريق، بينما في جنوبها حيث قرية «ميت رهينة» كانت تعيش من نفر، ويعتقد أن الإغريق حرفوها إلى ممفيس، هم الذين يسمونها أيضا مدينة الألف باب، لقد تعاقبت الشعوب على هذه القطعة من الأرض آلاف القرون، اكتسبت فيها مئات الأسماء، ورسمتها آلاف الملامح العمرانية، وظلت رغم جنون البشر وغضب الطبيعة عنوانا ثابتا للحياة وبيتا للملايين من سكان هذا الكوكب، لقد أراد النيل لهذه القطعة من الأرض أن تصير جنة الناس، وطالما كان للماء إرادة الخير.
مدينة السلام
سماها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور مدينة السلام تيمنا بالجنة، لكن بغداد بالأصل قرية عاش فيها البابليون قبل الميلاد بقرون، لقد وردت باسم «بجدادا» في لوح سبار الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، أي الفترة التي شهدت حكم حمورابي، أما في الوثيقة التي ترقى لزمن الآشوريين سنة 728 قبل الميلاد، فقد ذكرت باسم «بغدادو».
لمياء سويلم
مجلة المجلة