قبل خمس سنوات، كانت تكاليف إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة مرتفعة للغاية لدرجة أنه كلما انخفضت أسعار النفط كان المنتجون الأمريكيون أول المتأثرين. ويفترض العديد من المعلقين والمصادر الإعلامية أن الأمر لا يزال كذلك، لكن الوضع تغير بشكل كبير. ففي تقرير صدر مؤخراً عن “صندوق النقد الدولي” حمل عنوان: “مستقبل النفط والاستدامة المالية في منطقة دول «مجلس التعاون الخليجي»”، أدرجت المنظمة “سعر عتبة الربح” لمصادر متنوعة من النفط الخام. وبطبيعة الحال، كانت تكلفة نفط الخليج هي الأدنى عند 18 دولاراً للبرميل، غير أن الصدمة تمثلت في حلول النفط الصخري الأمريكي في المرتبة الثانية عند 22 دولاراً – أي أدنى بنسبة 50 في المائة من متوسط مشروع المياه العميقة، و 80 في المائة أقل من النفط الرملي الكندي، و 90 في المائة أقل من المشاريع البرية الروسية. ونظراً لتفاوت التكاليف بدرجة كبيرة، من المفترض أن تكون أسعار عتبة الربح لبعض المشاريع أقل بكثير وبعضها الآخر أعلى من ذلك بكثير، ولكن النتائج العامة مذهلة. وإذا كان تقرير “صندوق النقد الدولي” صحيحاً، فيجب عدم استبعاد الإنتاج الأمريكي، لأن العوامل الأساسية للتكاليف تميل لصالحه.
ويقيناً، أن هيكلية السوق الحالية ليست في صالح النفط الصخري الأمريكي. يتعين على صغار المنتجين في الولايات المتحدة جمع الأموال في الأسواق المالية ولا يمكنهم الاعتماد على الموارد الكثيرة التي توفرها الحكومات للمنتجين في روسيا ودول “أوبك”. ونتيجةً لذلك، يترقّب الكثير منهم وضعاً صعباً للغاية.
لكن السلطات الأمريكية تتخذ بالفعل خطوات ملفتة لمساعدة القطاع المحلي. وهناك حديث عن تشجيع المصارف على تقديم قروض جديدة أو السماح بإرجاء تسديد القروض القديمة. ودعت وزارة الطاقة الأمريكية المنتجين الأمريكيين إلى تزويد “الاحتياطي الاستراتيجي للنفط” بـ 30 مليون برميل من النفط، علماً بأنه يحتوي على قدرة استيعابية إضافية تصل إلى 77.5 مليون برميل. ويُذكر أن موعد طرح العروض ينتهي بحلول 26 آذار/مارس، وسيجري الإمداد بالنفط على مدى شهرين. ولا يوجد سبب مالي معقول لمعارضة هذه الخطوة: فشراء النفط عندما يكون رخيصاً وبيعه عندما يكون باهظ الثمن يشكّل وسيلة لتغطية تكاليف إدارة “الاحتياطي الاستراتيجي للنفط” وجني الأرباح أيضاً. ولإرضاء أي نقاد يعارضون أيديولوجياً فكرة التدخل في الأسواق، يمكن تسمية عملية الشراء هذه “رد على أزمة الإمدادات” (أي زيادة المعروض)، أشبه ببيع النفط عندما يكون باهظ الثمن والذي يمكن تصويره على أنه “استجابة لإمدادات غير كافية”.
والأهم من ذلك، قد يعيد المسؤولون في تكساس إحياء سلطة الولاية الكامنة منذ فترة طويلة لطلب خفض الإنتاج، كما اقترح الرئيس التنفيذي لشركة “بايونير للموارد الطبيعية” (Pioneer Natural Resources) سكوت شيفيلد. وقبل أن تصبح منظمة “أوبك” الجهة العالمية التي تحدد الأسعار في أوائل السبعينيات، لطالما اضطلعت “هيئة سكك حديد تكساس” بهذا الدور، علماً بأن لا علاقة لها بالسكك الحديدية بل لديها القدرة على طلب تخفيضات الإنتاج من قبل منتجي النفط الخاصين في الولاية. وفي حين تنحصر سيطرة الهيئة على إنتاج تكساس، إلّا أن معظم الإنتاج الصخري الأمريكي يتمركز هناك حالياً، ولدى المنتجين في أماكن أخرى قدرة محدودة على التوسع بسرعة. ويدعو شيفيلد حالياً إلى خفض الإنتاج بنسبة 10 في المائة مع إعفاءات لصغار المنتجين، الأمر الذي سيؤدي إلى خفض الإنتاج بمقدار 500 ألف برميل يومياً. وحتى إذا لم تستجب روسيا و”أوبك” لمثل هذه الخطوات الأمريكية، يمكن لمزيج من عمليات شراء “الاحتياطي الاستراتيجي للنفط” وخفض العمولات أن يقلّص الحسم الذي يحظى به نفط تكساس مقارنةً بالدرجات المماثلة في الأسواق العالمية، نظراً لزيادة العرض في تكساس.
وفي غضون فترة زمنية أمدها خمسة أشهر، من شأن خفض الإنتاج بـ 1 مليون برميل يومياً – النصف من عمليات شراء “الاحتياطي الاستراتيجي للنفط” والنصف الآخر من عمليات تكساس – أن يمنح السلطات الأمريكية بعض من صفقات المساومة الفعلية لحث السعوديين والروس على خفض إنتاجهم، وبالتالي استقرار الأسواق. وفي وقت سابق من هذا الشهر، عندما طلبت الرياض من موسكو خفض الإنتاج بمقدار مليون برميل كرد على انخفاض الطلب الناجم عن الفيروس التاجي، أفادت بعض التقارير أن الرئيس فلاديمير بوتين اعترض على ذلك لأنه يعتقد أن المنتجين الأمريكيين سيستفيدون من هذا التخفيض.
ومع بعض المساعدة من أوستن وواشنطن، يمكن التخفيف من حمام الدم بين المنتجين الأمريكيين الأصغر – على الرغم من أنه سيتعين على الكثير منهم البيع لشركات نفط دولية، والتي ستتمكن من زيادة قدرتها بأسعار زهيدة. ومن بين الأسباب الأخرى، يُعد الحدّ من هذه الخسائر أمراً مهماً لأن حصر القطاع تحت سيطرة جهات قليلة لن يكون مرغوباً فيه من الناحيتين السياسية والاقتصادية (على سبيل المثال، اضطلع صغار المنتجين بدور ريادي في التغييرات التكنولوجية التي تقلل تكاليف الإنتاج).
وأحد التأثيرات الجانبية الجيدة هو أنه من المرجح أن يتقلص الإنتاج الأمريكي ببطء فقط حتى لو خفضت الشركات الصغيرة إنتاجها. وسوف تواصل الحقول المنتجة حالياً إنتاجها؛ وستكون انخفاضات الإنتاج على المدى القريب نتيجة توقف الاستثمارات. وفي شباط/فبراير، توقعت “إدارة معلومات الطاقة” الأمريكية (الوكالة) أن ينمو إنتاج النفط الخام إلى 13.2 مليون برميل يومياً (بزيادة 1 مليون برميل) ثم إلى 13.55 مليون برميل في عام 2021. وخفضت هذه الوكالة تلك التوقعات في 11 آذار/مارس، لكنها لا تزال تتوقع نمو الناتج في كلا العامين، بوصوله إلى 12.7 مليون برميل في عام 2021. وعلى الرغم من أنه من المفترض أن تنخفض هذه التوقعات مجدداً في ضوء الأحداث العالمية الأخيرة، إلّا أن الناتج الأمريكي لن ينهار. والأرقام الواردة أعلاه هي للنفط الخام وحده ؛ وتنتج الولايات المتحدة أيضاً أكثر من 5 ملايين برميل في اليوم من سوائل الغاز الطبيعي وأكثر من مليون برميل يومياً من الإيثانول، ليبلغ إجمالي إنتاج النفط حوالي 21 مليون برميل في اليوم (من بينها ما يسمى بـ “مكاسب معالجة التصفية”، عندما يتوسع حجم النفط عند تكريره). وهذا أكثر من الاستهلاك الأمريكي (حالياً حوالي 20.5 مليون برميل يومياً) وهو أعلى إنتاج في العالم (تنتج السعودية حوالي 12 مليون برميل في اليوم وتدعي أنها سترفع ذلك إلى 14 مليون برميل؛ ويبلغ إنتاج روسيا 10 ملايين برميل وقد تزيد إنتاجها إلى 11 مليون برميل).
وإذا تمسّكت موسكو والرياض بقراراتهما لأسباب سياسية وإذا استمر الركود الناجم عن الفيروس التاجي، فقد تستمر الأسعار المنخفضة لبعض الوقت. ومن شأن ذلك أن يوجه ضربة مؤلمة للنفط الرملي الكندي ويقضي على العديد من المشاريع البحرية الكبيرة (والتي تُعد اليوم من بين المشاريع الأكثر تكلفة في العالم). وقد يكون المنتجون الأمريكيون – الصغار منهم والمتوسطو الحجم – الأكثر تأثراً بشكل خاص، ليس بسبب التكاليف المرتفعة، بل بسبب تمويل الديون والدعم السياسي غير المتكافئ – ما لم تتدخل واشنطن وأوستن من خلال عمليات شراء “الاحتياطي الاستراتيجي للنفط”، وتخفيف الديون وتخفيضات الإنتاج التي تأمر بها الدولة. وعندما تنتعش الأسعار في النهاية، سيكون منتجو النفط الصخري في الولايات المتحدة في وضع أفضل لزيادة الإنتاج بسرعة مقارنةً بالمشاريع الضخمة في أي مكان في العالم. باختصار، سيستمر الإنتاج الأمريكي في تحديد مسار أسواق النفط العالمية بغض النظر عما تفعله الرياض وموسكو.
باتريك كلاوسون
معهد واشنطن