طموحات باشاغا تغيّر معادلة الحرب والسلام في طرابلس

طموحات باشاغا تغيّر معادلة الحرب والسلام في طرابلس

عاد فتحي باشاغا وزير الداخلية في حكومة الوفاق مؤخرا من رحلة خارجية، وهو محمّل بطموحات ووعود كبيرة ليحل مكان فايز السراج ويجلس على سدة المجلس الرئاسي حسب ما ذهب إليه متابعون للمشهد الليبي، الأمر الذي ضاعف من حدة التباين بينهما، وجعل الخلافات المكتومة تخرج إلى العلن في شكل اقتتال في أماكن متفرقة في طرابلس على المكاسب والمغانم، وهو ما يجعل جبهة فائز السراج في مهب صراعات قاسية قد تعجّل برحيلها.

طرابلس ـ في صباح الثالث من مارس، استيقظ سكان شارع الهضبة، المؤدي إلى مطار طرابلس، على أصوات إطلاق قذائف صاروخية. السماء غائمة، وسُحُب الدخان تغطي واجهات المباني. دويّ الانفجارات بدأ يهز الجدران.

يقول إدريس، أحد سكان منطقة الهضبة، “اعتقدت، في البداية أنها مواجهات بين قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وقوات حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج، ثم اتضح لي ولجيراني فيما بعد، أنها اشتباكات بين قوّتين تابعتين للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق هما الكتيبة 301، وكتيبة النواصي”.

يُفترض أن هاتين الكتيبتين تتبعان غرفة عمليات “بركان الغضب”، مع مجاميع مسلحة أخرى. وهي غرفة تحظى بدعم تركي ويرأسها السراج، ويدير من خلالها الحرب لمنع تقدم قوات الجيش الوطني إلى مقر حكمه في طرابلس. ويتبع الغرفة، اسميا، بضع ألوف من المقاتلين، ربعهم تقريبا من المرتزقة والإرهابيين القادمين من تركيا، حيث يعملون مع الميليشيات المتباينة تحت اسم “القوات المساندة”.

لم يتمكن السراج من خلق توافق وطني في بلاده منذ توقيع اتفاق الصخيرات أواخر 2015، وهو الاتفاق الذي أدى لتوليه رئاسة المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق.

مع ذلك ما زال المجلس والحكومة يحظيان بدعم دولي، بيد أنَّه أصبح دعما أقل من السابق. ففي عهد السراج استمرت الحروب، ونزح الآلاف من بيوتهم، وتدهور الاقتصاد، وارتفعت الأسعار، وتوقف تصدير النفط، وهو المصدر الرئيسي لإيرادات الدولة.

تعجُّ العاصمة، بعدد سكانها البالغ نحو مليوني نسمة حاليا، بالعشرات من المجموعات المسلحة المنحازة للسراج، مثل كتيبتي 301 والنواصي، إلا أن الخلافات فيما بينها تؤدي بشكل متسارع إلى تغير سريع في معادلة الحرب والسلام في طرابلس.

تجمَّع الجيران في منزل إدريس، بعد أن هدأ الاقتتال مساء، ودارت أسئلة بسيطة مع فناجين الشاي الأخضر، حول من يتحكم في من؟ وكيف سيتم تطبيق هدنة لإسكات أصوات المدافع؟ حتى أشار أحدهم في إحباط، “لم يعد العالم يضع بلادنا على رأس أولوياته”. وإضافة إلى رعب سكان طرابلس من قذائف الميليشيات الطائشة في الشوارع، جدَّ فزع من وباء كورونا.

ويقول المحلل السياسي الليبي، عبدالحكيم معتوق لـ”العرب”، “للأسف يبدو أن الدنيا أصبحت مشغولة بمكافحة الفايروس، لا بملفات الاقتتال الداخلي في هذه الدولة أو تلك”.

وفي معركة شارع الهضبة، وقفت الميليشيات القادمة أساسا من مدينة مصراتة القوية (200 كيلومتر شرق طرابلس)، مع الكتيبة 301، لأنها تنتمي إلى مصراتة، ويقودها شاب غامض التوجهات يدعى عبدالسلام زوبي. وكان أحد قادة الميدان في كتيبته يأمر مقاتليه عبر اللاسلكي “اضربوهم.. امسحوهم”.

بينما سارعت ميليشيات ما يعرف بثوار طرابلس والردع، واللتان تنتميان أصلا إلى العاصمة، لتعضيد قوة النواصي الطرابلسية، والتي كان يتولى قيادتها في ذلك الصباح، رجل يلقب بـ”الشيخ قدور”، اندفعت مدرعة فوقها مدفع عيار 14.5 ملم، إلى الأمام، وصاح أحد المقاتلين وهو يجري خلفها “الله أكبر”.

وكانت ملامح الخلافات بين الميليشيات الطرابلسية والميليشيات المصراتية حاضرة في المشهد بقوة منذ شهور، بينما كانت الميليشيات المحسوبة على مدينة الزنتان (جنوب غرب العاصمة)، تراقب الوضع.

معروف أن مَن يهيمن على ميليشيات الزنتان، هو أسامة الجويلي، قائد المنطقة العسكرية الغربية، المُعيَّن من المجلس الرئاسي، إلا أن الميليشيات الزنتانية تتخوف دائما من أيّ تنام لنفوذ قوات مصراتة داخل طرابلس.

يُفترض أنَّ كل هذا الخليط الميليشاوي المتربص ببعضه بعضا بما فيه من أجانب، يعمل على منع الجيش الوطني من دخول طرابلس.

لقد تقدم الجيش على أبواب العاصمة وفي محيطها منذ الرابع من أبريل الماضي، إلا أنه رضخ حتى الآن، لمطالب دولية بوقف إطلاق النار، مع ذلك يبدو أن لسان حال الميليشيات يقول “إذا تحرك الجيش توحدنا.. وإذا توقف اختلفنا”.

وأكد محمد القشاط، رئيس جبهة النضال الوطني الليبية، لـ”العرب” أنه “حتى لو ظهر أن هذه الميليشيات منقسمة على نفسها، إلا أنها، في نهاية المطاف لديها توجه سيء، توجهها واحد، وهو الوقوف ضد الجيش الوطني”.

وتيرة تنافس الميليشيات في طرابلس، زاد عليها أمران، وفقا لما يشرحه قائد عسكري في غرفة عمليات “بركان الغضب” الأول هو خلاف قادة هذه القوات على ما يصل من أسلحة وذخيرة من تركيا، والثاني احتدام النزاع حول مسألة توزيع الأموال من الغرفة، كالأجور والمكافآت.

وهناك خلفيات أخرى حول هذا الموضوع أيضا، فبعض القوات الطرابلسية والزنتانية، يتهم وزير الداخلية في حكومة الوفاق، فتحي باشاغا، ذا الأصول المصراتية، بمحاباة قوات مدينته، سواء الموجودة في طرابلس، مثل الكتيبة 301، أو الموجودة في مصراتة.

سبق لباشاغا مهاجمة الميليشيات المسلحة في بلاده منذ أواخر العام الماضي، وقال عنها، على قنوات التلفزيون “أنا لا أسميها مجموعات مسلحة، بل أسميها مافيات”. واتهمها كذلك بعرقلة عمل الحكومة، ولهذا “دول العالم تخلت عنا، وعن حكومة الوفاق، لأنها تعتبر حكومة الوفاق فشلت في كبح جماح هذه المجموعات المسلحة، وهؤلاء المجرمين الذين يمتشقون السلاح، والذين يتدخلون في أمور الدولة”.

شعرت معظم الميليشيات الطرابلسية أنها هي، لا غيرها، المقصودة بـ “تلسين” باشاغا المستمر تجاه نشاطها المسلح في العاصمة، وعادت لتطلق اللقب الذي تستدر به عطف الليبيين، وهو كلمة “الثوار”. لقد اعتبر أحد نواب الشيخ قدور، في كتيبة النواصي، ويدعى “أبودراع”، أن باشاغا “يضطهد الثوار”.

على هذا كشّرت كتيبة النواصي عن أنيابها أكثر من السابق، وفتحت الباب لانضمام المزيد من المقاتلين في صفوفها مقابل 700 دولار للمقاتل الواحد شهريا، ونشرت إعلانات بهذا المعنى في أحد معاقلها في ضاحية سوق الجمعة، القريبة من قاعدة معيتيقة، في الجانب الشمالي الشرقي من قلب طرابلس. كما تحالف معها، ضد باشاغا والقوات المصراتية في طرابلس باقي قوات العاصمة، ومنها كتيبة ثوار طرابلس والردع وتاجوراء، بينما ظلت قوات الزنتان تترقب.

وباشاغا وتوجهاته تغيرت بطريقة لم تكن متوقعة. فحتى أواخر العام الماضي كان في مركب واحدة مع السراج وميليشياته، حيث تفاخر الرجلان علانية بعقد اتفاقيات لترسم الحدود والأمن والتعاون العسكري مع تركيا.

لكن وزير الداخلية أعلن فجأة في فبراير الماضي، أن الحكومة “لا تمانع في إقامة قاعدة عسكرية أميركية في ليبيا، إذا طلبت الولايات المتحدة ذلك، وأن هذا من شأنه أن يعزز التعاون بين البلدين في مجال مكافحة الإرهاب، والجريمة المنظمة، وإيقاف التدخلات العسكرية”.

أحد مسؤولي وزارة الداخلية المقربين من باشاغا، قال لـ”العرب”، طالبا عدم ذكر اسمه لأنه غير مخوّل له الحديث للإعلام، إن تصريحات الوزير بشأن التعاون مع واشنطن أثارت غضب الأتراك في البداية، كما دفعت قادة في التنظيم الدولي لجماعة الإخوان، وهو تنظيم حليف لكل من أنقرة والدوحة، لمراجعة رهاناتهم على باشاغا.

وأضاف المسؤول نفسه، أن الوزير لم يقطع علاقة الود مع تركيا، رغم الريبة التي تلاحق زياراته ولقاءاته الأخيرة التي يجريها مع مسؤولين دوليين وسفراء أجانب.

وفوق هذا، ما زالت الأسلحة تأتي من تركيا عبر الطيران وعبر السفن، وما زال المقاتلون الأجانب القادمون من تركيا يتدفقون على ليبيا، وفقا لتصريحات اللواء أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الوطني.

المشكلة أن جانبا من الخلافات التي تقع بين حين وآخر بين ميليشيات مصراتة وطرابلس والزنتان، تتعلق بنصيب كلّ منها ممّا يأتي عبر تركيا من أسلحة ومقاتلين، ومن بين مصادر قلق الميليشيات الطرابلسية والزنتانية كذلك أن معظم المدد التركي، وبعد وصوله إلى ليبيا، يتم توجيهه إلى الميليشيات المصراتية.

وسط هذه الأجواء تمكنت تركيا من خلق أذرع لها على الأرض في طرابلس، ومصراتة، وفي غريان (قرب الزنتان)، وفي كثير من الأحيان ترصد أجهزة أمنية في العاصمة تواصلا مباشرا بين مسؤولين عسكريين أتراك وقادة ميليشيات ميدانيين دون تنسيق يذكر مع السراج أو مع باشاغا، بحسب مصدر في جهاز مكافحة الإرهاب في طرابلس.

حدثت تغيرات جذرية ساهمت في خلط المزيد من الأوراق في الشهور الأخيرة. مثلا، تبدّل توجه كتيبة الردع التي تسيطر على قاعدة معيتيقة؛ فبعد أن كانت تقف ضد حلف جماعة الإخوان وتركيا وقطر، ارتمت في أحضان هذا الحلف، ومنحت للأتراك حق التواجد العسكري في القاعدة.

أما المقاتلون المرتزقة الذين أرسلتهم تركيا إلى ليبيا فقد أصبح ولاء العديد من قادتهم لمن يدفع رواتبهم، ولمن يدفع أكثر، وتوزَّعوا بين ميليشيات مصراتة وطرابلس والزنتان، ويُقاتلون بغض النظر عمَّن هو العدوّ، ففي الكثير من الأحيان يشترك مثل هؤلاء في حروب بين هذه الميليشيات وبعضها، كما حدث بين الكتيبة 301 والنواصي في شارع الهضبة.

لا حظوظ سياسية لباشاغا في حال تمكن الجيش الوطني من دخول طرابلس
تعد مصراتة مدينة مهمة في معادلة الاستقرار في ليبيا؛ مدينة تجارية ثرية تقع على البحر المتوسط، وتعتبر الأكبر بعد بنغازي وطرابلس، ويوجد فيها كذلك المقر الرئيسي لحزب العدالة والبناء التابع لجماعة الإخوان.

بدأ حزب الإخوان يشعر أخيرا بضغط من لوبي رافض لوجوده وجماعته في المدينة، وهو لوبي يعادي التدخل التركي في شؤون ليبيا، ويعرف باسم “أحرار مصراتة”. حدث ذلك بالتزامن مع تحركات باشاغا المحلية والدولية.

أخذت جماعة الإخوان في تطعيم ميليشيات طرابلس بالمزيد من الإرهابيين القادمين من تركيا، في محاولة منها لخنق باشاغا في العاصمة.

ويقول معتوق إن “الوضع أصبح غريبا في طرابلس، وهناك انشقاقات كبيرة وصدامات وعرة، وهناك أيضا قتلى من الميليشيات على أيدي مرتزقة من السوريين”.

في المقابل تشير العديد من التكهنات إلى أن باشاغا يحاول الاستقواء بالقوات المحسوبة على مدينته، وهي قوات ذات تسليح جيد، لكنها منقسمة على نفسها هي الأخرى، ويسعى باشاغا إلى بلورة رؤية لأطراف دولية معنية بليبيا، يقضي بها على الفوضى في العاصمة.

ومن بين المقترحات تخفيض عدد أعضاء المجلس الرئاسي إلى رئيس ونائبين، بدلا من رئيس وثمانية نواب، مع فصل موقع رئيس المجلس الرئاسي عن موقع رئيس الحكومة.

ويعتقد معتوق، أن باشاغا يطمح في شغل موقع السراج، كما أن أطرافا دولية ترى أنه يمكن أن يكون بديلا، حيث يشغل موقع رئيس الحكومة الليبية بترتيبات معينة.

هذه الفرضية تأتي على خلفية مقترحات جرى طرحها في بضعة اجتماعات دولية أخيراً، عن إمكانية تعديل تركيبة المجلس الرئاسي.

وخلال الشهور القليلة الماضية زار باشاغا، الذي يشغل منذ 17 شهرا موقع وزير الداخلية، العديد من العواصم، ووفقا لمقربين منه، بدا أن نتيجة تلك الزيارات لم تكن في صالح السراج، ولا مجلسه الرئاسي.

ويوضح معتوق الذي شغل من قبل موقع المستشار الإعلامي للمندوبية الليبية في الجامعة العربية، والمتحدث الرسمي السابق باسم الحكومة الليبية المؤقتة، “يبدو أن هناك وعودا لفتحي باشاغا من قبل الفرنسيين ومن قبل الأميركيين بأن يكون الرجل بديلا للسراج”.

ورغم كل شيء لا تشير تحركات باشاغا لمستقبل واضح المعالم في ليبيا، خاصة في ظل إهمال العالم للملف السياسي حاليا، واهتمامه بالملف الصحي بسبب كورونا، إلا أن أيّ خطة لنزع سلاح الميليشيات في طرابلس دون القيام بالمثل في مصراتة والزنتان من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم حالة الاقتتال بين هذه الميليشيات من جهة، والاقتتال بينها وبين الجيش الوطني من جهة أخرى.

ومع ذلك، لا يرى القشاط أيّ حظوظ سياسية لباشاغا في حال تمكن الجيش الوطني من دخول طرابلس، قائلا “باشاغا أحد مهندسي الفوضى، وانتصار الجيش سينهي دور كل هؤلاء جميعا”، أي باشاغا والسراج والميليشيات والمرتزقة وكل الإرهابيين.

وإلى أن يتمكّن الجيش من حسم الأمور في العاصمة، يعتقد القشاط أن ألاعيب الميليشيات سوف تستمر مثلها مثل ألاعيب جماعة الإخوان، “هؤلاء لا تأمن لهم، توجههم واحد، وإن اختلفوا فإنهم يختلفون مثل اختلاف السُّراق على الغنيمة”.

من جهته يشير معتوق إلى أن هناك اثنين من السيناريوهات، “إما أن يدخل الجيش الوطني طرابلس ويسقط كل هذه الأجسام الميليشياوية، ويعلن حالة الطوارئ، ويشكّل حكومة حرب إلى حين، وإما، نذهب إلى سيناريو إعادة هيكلة المجلس الرئاسي من رئيس ونائبين وتشكيل حكومة جديدة”.

وعليه، يبدو المستقبل مبهما أمام سكان طرابلس، ففوق غياب الأمن، يشكو إدريس وجيرانه من تدنّي الخدمات الصحية ومن انقطاع الكهرباء والمياه، وخلال الأيام القليلة الماضية، تجددت معارك طاحنة في منطقتي الهضبة وعين زارة. وهو أمر يؤكد أن هناك انشقاقات داخل الميليشيات، وهي نفسها التي تقف ضد تقدم الجيش من أجل إحكام السيطرة على طرابلس.

العرب