ربما هي من المرات النادرة التي تعلن فيها أنظمة ديمقراطية حالة الطوارئ، ومنع التجول، ونزول الجيوش إلى الشوارع، دون أن يقف ضد هذه الخطوة التي تنتهك أبسط قواعد حقوق الإنسان، لا حزب معارض ولا منظمة حقوقية، ولا أي فئة بالمجتمع.
تعيش المجتمعات التي اجتاحها كورونا حالة من الذعر بأن يقضي الفيروس على شعوبها، وربما على الوجود الإنساني نفسه. وأعلن حظر السفر والتجول وأوقفت الفعاليات الثقافية والرياضية والفنية في العديد من البلدان، فهل انتهى عهد الحريات وحقوق الإنسان في الدول التي ناضلت طويلا من أجل أن تكون “كرامة الإنسان” فوق كل قانون؟ وكيف سيكون عليه حالها بعد زوال وباء كورونا؟
ارتكاسة طبيعية
يرى الباحث في الشؤون السياسية والثقافية الدكتور حازم نهار أن الارتكاسة الأولى تجاه التحدي الذي خلقه فيروس كورونا طبيعية، فالخوف أمر طبيعي تجاه الكوارث الصحية والطبيعية، ومثلهما الخوف في زمن الحروب.
ويستطرد نهار في حديثه للجزيرة نت أنه “يمكن أيضًا أن نشهد انتعاشا في الأصوات الدينية المتطرفة أو الأصوات الانعزالية والشوفينية”، لذلك يرى أنه من الطبيعي أيضًا أن تفكر الدول والجهات المعنية بالصحة الإنسانية في الطرق الإسعافية والسريعة أولا لمواجهة المخاطر المترتبة على انتشار الفيروس.
وبسؤاله إن كانت الدول الغربية، أو الدول التي حصلت فيها عمومًا ثورات ثقافية كبرى عبر التاريخ، تستطيع أن تعيد ترتيب شكل مواجهتها للمخاطر بعد تجاوز اللحظة الإسعافية، أوضح الدكتور نهار أنها تستطيع ذلك، وأن مجتمعات هذه الدول ستعيد “قراءة الأزمة وأسبابها وتجلياتها بعد تجاوز الأخطار السريعة”.
وقال إنه ستترتب على ذلك تغييرات في بعض المسائل، مثل الأنظمة الصحية، وطرق المواجهة الجماعية للكوارث على مستوى العالم، وأنظمة المطارات والسفر، ويمكن أن يفرض ذلك أيضًا إجراء تغييرات محدودة في سياسات عدد من الدول المتقدمة لمصلحة نظرة أكثر إنسانية، على اعتبار أن البشرية تعيش في عالم واحد، وأن أي خطر في أحد أجزائه يمكن أن يصيب بقية الأجزاء، إن كان على مستوى الصحة أو البيئة أو بؤر الصراع المنتشرة، “لكنها لن تصل في الحصيلة إلى مرحلة هدم النظام الليبرالي، وهو الذي لا يختزل فحسب بمظاهره الاقتصادية الجائرة”.
صراع سياسي
الباحثة السورية سارة العظمة تجد أن جائحة كورونا فرضت معطيات جديدة على العالم بأسره، “ستكون بدون شك نقطة انطلاق لنقاشات عديدة في المستقبل عند انحسار الطوفان”. وتستشرف ذلك منذ الآن من خلال ضروب التراشق الكلامي الذي يصل مستوى الحرب الإعلامية بين دول تمثل منظومات سياسية مختلفة.
وباستفسارنا عن رؤيتها هذه، قالت سارة للجزيرة نت إن “الصين مثلا تسعى اليوم، وبعد إعلان نجاحها التام في الانتصار على الوباء خلال فترة زمنية قياسية، إلى حصد النقاط السياسية على طاولة العولمة، وتتهم الدول القائمة على نظام الديمقراطية الليبرالية بالعجز عن احتواء الأزمات وحماية شعوبها بطرق فعالة”.
وتجد أن ذلك بمثابة “رد واضح” على فتح حكومات هذه الدول مرارًا لملف حقوق الإنسان في الصين، وأن “إعلام الدولة (الصينية) ذات الموروث الدكتاتوري تفرّغ الآن لتطهير سجله عبر هجومه إعلاميًّا على الدول المشغولة بمكافحة الوباء”.
ترى سارة -وهي ناشطة في مجال الحريات- أن سبب انتشار فيروس كورونا من منطقة ظهوره الأولى في ووهان الصينية، يعود إلى “طبيعة المنظومة السياسية القمعية”، معتبرة أن غياب حرية التعبير “بسبب الرقابة الصارمة، ومركزية الدولة وعدم وجود سلطة حقيقية على المستوى المحلي، كانت منبع الأزمة العالمية التي نعيشها جميعا اليوم”.
وتشرح للجزيرة نت ربطها ذلك من خلال حادثة تناقلتها الصحف مفادها أنه “مرت عدة أسابيع بين تحذير الطبيب الذي اكتشف ظهور الفيروس الجديد لي وين ليانغ، وقرار القيادة الصينية في بكين اتخاذ أي إجراءات وقائية.. ما حدث أن السلطات اعتقلت الطبيب المذكور ومنعت ما وصفته بإشاعات تضعف الروح الوطنية وتضر بسمعة البلاد. ودعوني أذكّر بأن السيناريو نفسه حدث في أزمة وباء سارس 2003 التي انطلقت أيضا من الصين إلى الخارج عن طريق السفر”.
على الطرف المقابل، وفي القارة الأوروبية التي تحولت الآن إلى بؤرة للوباء، تعتمد الحكومات على مبدأ الشفافية التامة، ويقوم الإعلام الحر بمهمته في نشر المعلومات ونقل الأخبار المستجدة.
اعلان
وتجد سارة أنه رغم الأجواء الاستثنائية من حجر عام وتوقف جزئي لحركة المجتمع وانتشار تنبؤات بأزمة اقتصادية عارمة، “إلا أن النظام الديمقراطي الليبرالي يبقى متفوقا من الناحية العملية والأخلاقية”.
نظام كوني
من جهته، يعتقد نهار أن الليبرالية نظام كوني يخص العالم كله، “لأن تأثيراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية تطال كل بقعة في العالم حتى لو حاولت أن تكون بمنأى عنه”.
ويستطرد بالقول إن هذا النظام قدم للبشرية خدمات جليلة في العلم والحريات والثقافة والاقتصاد ونظم الحكم، “وإلى اليوم لا يوجد نظام آخر تجاوزه بصورة جدلية إلى نظام أكثر تطورًا وأقل ظلمًا”.
ويجد صاحب كتاب “مسارات السلطة والمعارضة في سوريا” أن في النظام الليبرالي كثيرا من الظلم، لكن “لا يوجد نظام عبر التاريخ لم يكن الظلم إحدى ركائزه أو تجلياته، لكن تختلف درجة الظلم هذا ومستواه ونوعيته، مثلما تختلف الفئات التي يقع عليها هذا الظلم اجتماعيا وجغرافيا”.
ويستطرد نهار في حديثه للجزيرة نت أن في هذا النظام مراكز وأطرافا، منتجين ومستهلكين، أغنياء وفقراء، “وهذا كله انعكس في الحقل السياسي ظلما وتحكما في الدول والشعوب إلى أن غابت حقوق الإنسان الجماعية”.
دفاع الدكتور نهار هذا يستند إلى الرؤية التي كان ينبغي العمل في ضوئها بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، بألا تكون تلك التي تصب في خانة الوقوف ضد النظام الليبرالي، بل الرؤية التي تنطلق من هدف تحسين وتفعيل حقوق الإنسان الفرد، وحقوق الإنسان الجماعية، أي حقوق الجماعات والشعوب، “فالتغيير المحتمل والممكن والمأمول هو الذي يبنى من داخل النظام هذا، لا التغيير الذي يبنى على أنقاضه أو بالتضاد الكلي معه، على شاكلة التجارب الاشتراكية السابقة، فهذا النمط الأخير لا يصب إلا في إطار الوهم والأيدولوجيات المضللة”.
التضحية بالإنسان
من جانبها، ترى سارة أن منع الحريات الفردية بشكل مؤقت ولسبب معلن “ليس إثباتا على وهن في النظام الليبرالي، بل على مرونته وقدرته على التكيف”.
وتبرر ذلك بأن لكل قاعدة استثناءات، والاستثناءات التي نشهدها اليوم في القارة الأوروبية لا تدعو إلى “إعادة النظر في منظومة سياسية فلسفية يكمن نجاحها في أنها لا تضحي بالفرد وتمنح كل إنسان الإحساس بالأمان”.
تتحدث سارة وتدافع عن الليبرالية الاجتماعية، فالليبرالية التي لا تعني الأنانية، “بل كانت الأساس التي قامت عليه مؤسسات التعليم والصحة المجانية أو شبه المجانية في دول أوروبا”. وبالتالي هي الإطار السياسي الذي يمتلئ بمضامين مختلفة بين فترة وأخرى، وحسب تطورات المجتمع وحاجاته وخيارات العدد الأكبر من أفراده.
وتستطرد بأن الليبرالية الكلاسيكية بدأت كرداء أيدولوجي لأصحاب المال في القرن 18، وتحولت إلى غول السوق المفتوح في القرن 21، “تلك التي نرى تجلياتها الأبشع في السياسة والمجتمع الأميركي، والاستهتار بالبيئة، فكل الانتقادات الموجهة لها مشروعة وضرورية”.
من جهته، يؤكد نهار أن حقوق الإنسان منظومة عالمية، وإذا قامت في البدايات على ركيزة الفرد، فإنها أيضًا طورت نفسها على مستوى الاعتراف بالحقوق الجماعية للبشر، “وما ينقصها فعلا في الحالتين، هو الآليات الإلزامية بعيدًا عن مصالح الدول، وهذا يحتاج من جانب أول إلى العمل -من داخل النظام الليبرالي وخارجه- على تطوير نظام عمل الأمم المتحدة ليخدم مصالح الشعوب عمومًا، لا المتحكمين سياسيا واقتصاديا وعسكريا في العالم”.
ويرى -من جانب آخر- ضرورة إعادة النظر أيضًا في مبدأ سيادة الدول، “فليس من الحكمة الإقرار مثلا بعدم التدخل في شؤون الدول المحكومة بأنظمة استبدادية أو بأنظمة لا تكترث لصحة مواطنيها، وغيرها، بل لا بد للأمم المتحدة أن تتدخل استنادًا إلى معايير حقوق الإنسان، لا إلى معايير مصالح وصراعات الدول الكبرى، وربما يكون ذلك عبر إعطاء الجمعية العامة للأمم المتحدة دورًا أكبر على حساب مجلس الأمن”.
اعلان
كلام كثير سيقال عن منع الحريات الفردية من أجل مصلحة عموم البشر، في الطريق إلى إعادة التفكير في ثقافة واحدة، هي ثقافة الحفاظ على الإنسانية وكوكب الأرض.
عارف حمزه
الجزيرة