هل يمكن تصوّر أوضاع العالم وسكانه لو داهمه الوباء الحالي قبل ربع قرن؟ قبل 25 سنةً وأكثر قليلاً، لم تكن ثورة الاتصالات الراهنة قد انطلقت واحتلت مفاصل الحياة البشرية. وحتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي لم يكن الإعلام التلفزيوني الفضائي وصل إلى ما هو عليه الآن، وكل ما نعرفه عن شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لم يكن ولد بعد.
ولنا أن نتصوّر ما سيعيشه الناس في مواجهة وباء يفرض عليهم عزلة تامة في جحورهم التي كانت منازل قبل قليل. كانوا سيتسمّرون أمام أجهزة الراديو في انتظار خبرٍ ما، وسيحاولون الحصول على صحيفة يومية قبل أن يُمنع توزيعها كونها من ورقٍ قد ينقل العدوى (كما قررت الإمارات)، وسينتظرون نشرة أخبار على الشاشة الصغيرة ترافقها من آن لآخر قصص عاجلة قدر الإمكان.
ربما يستعيد المحجور عليهم في المنازل بعضاً من علاقات عائلية مفقودة، لكنهم سيفتقدون إلى تواصل أغنى مع بقية العائلة والأقارب والأصدقاء تتيحه وسائل تواصل ستكون موجودة بعد ربع قرن، عبر هاتف ذكي يختصر في علبته الصغيرة عوالم حيوية.
تفيد تخيلاتنا في طرح مزيد من الأسئلة . كيف واجه البشر الأوبئة البائدة وضمن أية ظروف، الطاعون والملاريا والحمى الإسبانية؟ كيف عاشوا لحظات الوباء جماعات وفرادى؟ كيف خافوا واستسلموا وماتوا؟ فيما كانت سلطاتهم المتحاربة تخفي هوية المرض وتنسبه إلى إسبانيا التي لا ناقة لها ولا جمل في تلك الحمّى، قبل أن يبلور العلماء اللقاح الشافي.
اليوم ينتظر العالم اللقاح، ولدى كل مواطن كوني كمية زائدة يومياً من الأخبار الجيدة والسيئة، الصحيحة أو الكاذبة، عن تطورات الوباء، والفحوصات الخاصة به، والتقدم في إنتاج مضادات له. ويمضي هذا المواطن الكوني يومه متشاركاً مع آخرين في المنزل إياه أو في أقاصي الأرض، قصص يوميات الهجوم الذي يتعرض له الجنس البشري وما يفعله البشر لصدّه.
منافع الثورة التكنولوجية، وضمناً ثورة الاتصالات، أسعفت مواطني العالم من الصين إلى أميركا، جعلتهم أكثر معرفة بما يجري حولهم وسهلت لقادتهم وحكوماتهم تسيير أعمال دولهم، ومهّدت لقياداتهم الدينية اتخاذ تدابير، في ظروف انتشار الوباء، كان يصعب مجرد التفكير فيها قبل سنوات قليلة.
ولمواجهة كورونا ستعقد مجموعة العشرين، التي تضمّ أغنى وأقوى دول العالم، اجتماعا “يجرى الإعداد له برئاسة السعودية لبحث الوضع الدولي في ظروف الوباء”.
الاجتماع الافتراضي سيعقد “أونلاين” عبر الإنترنت، وتولّت السعودية الدعوة له، وكان يُفترض أن يُعقد اجتماع مماثل لمجموعة السبع بدعوة من الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون يوم الثلاثاء الماضي، إلا أنه أُرجىء، ويرى كثيرون أن اجتماع العشرين الافتراضي أكثر إلحاحاً، خصوصاً أن المجموعة تضمّ دولاً كالصين وروسيا وجنوب أفريقيا والبرازيل وأستراليا، وكلها دول معنيّة مباشرة بمواجهة المشكلة القائمة.
الخدمة التي توفرها ثورة الاتصالات تتعدى اجتماعات القادة والدول، إلى حلّ مشكلة تفادي انتشار الوباء عبر التجمعات، وأبرزها في العالمين العربي والإسلامي التجمعات الدينية.
وحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية “يعتبر منع صلوات الجمعة والجماعة، في العديد من الدول العربية، كإجراء احترازي لوقف انتشار المرض، من أكثر الإجراءات التي أثارت جدلاً بين مؤيد ومعارض”، وفي موازاة هذا الجدل تقررت خطوات للصلاة في البيوت أو في مكان غير مزدحم، وعند المسيحيين جرى اعتماد القداديس من الكنائس تُبثُّ مباشرة عبر الإنترنت إلى المؤمنين في منازلهم.
غيّر الوباء أنماط الحياة فأسعفها وجود الإنترنت، ولنا أن نتخيل منذ اليوم كيف ستبنى حياة ما بعد الانتصار على الجائحة الجامحة. ولكي يتم الحديث عن انتصار يجب تحقيق تقدم علمي في مجال مكافحة الأوبئة، وهذا سيستدعي مزيداً من الاهتمام، خصوصاً في عالمنا العربي، بمراكز الأبحاث والمختبرات العلمية، وسيتطلب أيضاً إعادة النظر في الأنظمة الصحية، حيث تبينت هشاشة استعداد هذه الأنظمة حتى في بلدان متطورة، وعجزها عن الاستجابة للمخاطر الحادة. يقود ذلك أيضاً إلى ضرورة التمحيص في جوهر دور الدولة في المرحلة المقبلة، بوصفها ستبقى الإطار الضامن، الذي لا بديل عنه، لصحة ورفاهية وأمن المجتمع وأفراده.
سيتخطى التفكير في ما بعد الانتصار على الوباء الكثير من الحسابات السابقة، والتي لا يزال بعضها قائماً لدى أطرافٍ ودول.
ومثلما لم يقبل كثيرون بنبرة دونالد ترمب في حديثه عن “فيروس صيني”، ونظروا بإشفاق إلى تبادل الرهائن بين إيران وخصومه الغربيين، سيتمسك آخرون بتعاون دولي أعمق من أجل عالمٍ جديد خاض إنسانه تجربة حياةٍ أو موت مع عدوٍ حاصر البشرية جمعاء “في جحورها”.
طوني فرنسيس
اندبندت عربي