إن العزلة التي فرضها الفيروس كورونا على الناس وتواصلهم والأعمال والطيران والجامعات والمدارس والأسواق والحركة لازالت لم تكشف عن جميع أبعادها. فكل يوم يحمل لنا مزيدا من المفاجآت عن الفيروس وعن الذي يقع في أوروبا أو نيويورك. وفق عدد ليس صغيرا من الخبراء مازلنا في بداية المشكلة، ولم نر بعد سوى رأس جبل الجليد. فهل هذا صحيح؟ بل يقول الخبراء بأن بعض الإجراءات الكبرى التي اتخذتها الكثير من الدول تأكيد لطبيعة معرفتها بالفيروس وتصرفه ومدى حصده للأرواح. العالم الآن يقف على الميزان بين المقدرة على حصر الفيروس كما فعلت الصين، بين تفشيه كما حصل في ايطاليا وكما يحصل في اسبانيا وكما بدأ يقع في نيويورك.
وتختلف الدول والأنظمة في تعاملها مع المأزق. فبينما فاجأت الكويت الكثيرين بمستوى الحزم والجدية الشاملة وطبيعة القرارات الهادفة لمحاصرة الفيروس، بدت دول أخرى مترددة في إجراءاتها، بينما يوجد الكثير من الدول التي لا تملك الحد الأدنى من مقومات المواجهة، وهذا ما ينطبق على الكثير من الدول العربية الأقل ثروة والأقل استثمارا في البنى الطبية. بعض الدول تأخرت أسابيع في مواجهة الفيروس وذلك في ظل محاولتها حماية الاقتصاد وحماية أعمال الناس، وهذا ما حصل في ايطاليا بل هذا ما يفسر تردد الكثير من القادة بمن فيهم الرئيس ترامب في القيام بإجراءات ستؤثر بصورة مضاعفة على المؤسسات الاقتصادية ومؤسسات العمل والتوظيف. لقد راهن الكثير من الدول على أن الفيروس سيختفي كما اختفى من قبله إيبولا والخنازير والطيور وغيره، لكن هذا الفيروس ذو قدرة مضاعفة على العيش والانتقال والفتك.
لقد قدمت الصين نموذجا إيجابيا. لكن علينا إن نتساءل إن كانت المعلومات القادمة من الصين في ظل النظام السياسي غير الديمقراطي صحيحة ودقيقة؟ فالصين نجحت في تغير المسار كما لم تنجح دولة أخرى. لكن نجاحات كوريا الجنوبية وسنغافوره هي الأخرى واضحة للعيان. هذه النجاحات تعكس مدى الانضباط والوعي الذي تتميز به هذه المجتمعات الشرقية المتأثرة بالكونفوشيه وقيم الانضباط والتضحية التي تركز عليها.
ولم يتعامل الرئيس ترامب بمسؤولية مع الأزمة، إذ أضاع وقتا ثمينا بالرغم من معرفته بكل ما حدث في الصين. لقد بقي الرئيس متأخرا بخطوات عن تطور الوضع. فعلى سبيل المثال أعلن في 29 يناير/كانون الثاني بأنه «لدى الولايات المتحدة أفضل الخبراء وهم مسيطرون على الوضع». وأعلن أيضا في 10 فبراير/شباط «بأن الأمور ستكون جيدة»، ثم في 24 فبراير/شباط قال «إن الأمور مسيطر عليها»، وفي 28 فبراير أكد أن «الفيروس سيختفي»، بل في 9 مارس/آذار أعلن بأن وسائل الإعلام الكاذبة والديمقراطيين يضخمون قضية فيروس كورونا. ولا يبدو أن ترامب اعترف بأن الفيروس ليس تحت السيطرة إلا في السادس عشر من آذار/ مارس.
يتضح أن الاستثمار في السلاح والتصنيع العسكري وتعظيم الأموال بلا قيم أخلاقية أو قيم إنسانية هو تدمير للحضارة وسلوك بدائي
في هذه الأزمة لطخ احتقار ترامب للرأي العلمي، ولشعوره السريع بأن احدا ما يحاول الحط منه ومن قيادته إضافة لنرجسيته، طريقة التعامل مع الأزمة. في اللقاء الصحافي المخصص لكورونا الأحد الماضي انحرف ترامب عن موضوع كورونا وبدأ بالتحدث، وسط دهشة الصحافيين، مطولا عن كيفية فوزه في الانتخابات وكم دفع من الأموال، وعن دوره كصاحب ثروة يملك مئات الملايين. وفي يوم آخر قبل الاحد انفجر بوجه أحد الصحافيين. فهو مستعد للدخول في نزاع تلو الآخر غير عابئ بأثر ذلك على الأمريكيين في وقت أزمة.
من جهة أخرى استطاع حاكم نيويورك اندرو كومو في مؤتمره الصحافي اليومي وقرارته اليومية وسرعة تصرفه تأمين القيادة المطلوبة للولاية في ظل وضع صعب ومتحول. بل أن حاكم نيويورك برز على الصعيد الأمريكي بصفته قادرا على تفسير وشرح وتوضيح الحالة بما يتجاوز قدرة الرئيس ترامب. لكن في الوقت نفسه يعبر كومو عن ضيقه كل يوم من سياسة الحكومة الأمريكية الفيدرالية التي تمتلك الصلاحيات ولا تتحرك في الوقت المناسب.
في المقابل، قرر حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتس أن تستمر الحياة الطبيعية في الولاية وكأن شيئا لم يقع. لهذا لم يغلق ولم يوقف الأعمال، وقرر أن فلوريدا لا تعاني. لكن التأخر في التحضير، والتأخر في الإغلاق سوف يفاجئ الولاية بالإصابات التي يصعب السيطرة على انتشارها. لهذا يتوقع أن تدفع الولاية بعد بضعة أسابيع ثمنا مضاعفا من جراء الانتظار وعدم التحرك. إن النظرة الاقتصادية للأزمة والتي تقول بخطورة الإغلاق والابتعاد الاجتماعي على الأعمال والحياة تعني إهمال الأبعاد الأخرى التي يسببها الفيروس. هذه أزمة تتعلق بأرواح الناس وبصحتهم ولا تقاس استنادا إلى المخاسر الاقتصادية وحدها.
سيبقى العالم خائف من المجهول بينما ترتفع الإصابات وتنتشر. كل الأمل أن تقل الوتيرة وألا ترهق مؤسسات الصحة بما يتسنى لها التعامل مع الحالات الصعبة التي تصلها من جراء الإصابة بالفيروس. سيبقى العالم ينتظر اكتشاف لقاح ودواء للتعامل مع المرض. فبلا اللقاح وبلا العلاج والأجهزة الطبية الكافية والكمامات المناسبة سيزداد العجز وتتعقد المهمة. هذا ما تؤكده لنا الحالة الإيطالية التي خرجت عن كل التوقعات. الفيروس يؤكد بأن مستقبل العالم يقع في البحث والتعليم كما وفي الصحة والمشفى والطب والحفاظ على البيئة وصحتها. يتضح أيضا أن الاستثمار في السلاح والتصنيع العسكري وتعظيم الأموال بلا قيم أخلاقية أو قيم إنسانية هي الأخرى تدمير للحضارة وسلوك بدائي. تسقط الحضارة بصورتها الراهنة عندما يقرر فيروس لا يرى بالعين المجردة تدميرها خلال أسابيع.