اعتماد إيران على الصين يتنامى في ظل انتشار وباء “كوفيد-19”

اعتماد إيران على الصين يتنامى في ظل انتشار وباء “كوفيد-19”

حين انتشر فيروس كورونا بطريقة خارجة عن السيطرة في ووهان خلال كانون الثاني/ يناير من هذا العام، تجاهلت إيران – مَثَلها مثل العديد من البلدان الأخرى – هذا الوباء واستمرت في الحفاظ على الرحلات الجوية المباشرة والحدود المفتوحة مع الصين. وحتى بعد أن أوقفت حكومة الرئيس حسن روحاني جميع هذه الرحلات في 31 كانون الثاني/يناير، واصلت شركة الطيران الإيرانية “ماهان للطيران” – التابعة لـ «الحرس الثوري» الإسلامي الإيراني – رحلاتها بين طهران وأربع مدن صينية رئيسية، مما دفع بالكثيرين إلى الادعاء بأنه كان للشركة دور رئيسي في إدخال هذا الوباء المستعر إلى إيران أو تفاقمه على الأقل.

وبغض النظر عن الحقيقة الكامنة وراء هذه الادعاءات، تحمل سياسة “ماهان” مؤشرات لواقع جغرافي سياسي أكبر، وهو: أن طهران أصبحت تعتمد بعمق وبشكل غير متكافئ وربما بصورة لا رجعة فيها على بكين، رغم معارضتها الثورية الخاصة للاعتماد على القوى الأجنبية. وقد نجح الوباء، حيث فشلت العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية، في عزل الجمهورية الإسلامية كما لم يسبق من قبل، مما اضطرها إلى إبقاء حدودها مفتوحة مع الصين.

كما بدد وباء “كوفيد-19” النظرية بأن “اقتصاد المقاومة” الذي يخضع لعقوبات شديدة في إيران، لا يزال كافياً لإبقاء البلاد قادرة على الوفاء بديونها. وقد سلّمت الحكومة بأن مواصلة العمل سيكون مستحيلاً إذا قَيَّدت التجارة عبر الحدود، وأَغلقت الصناعات، وفرضت حجراً صحياً على مدن بأكملها. وكانت الأزمة شديدة للغاية لدرجة أن “البنك المركزي” الإيراني طلب مليارات الدولارات من “صندوق النقد الدولي”، وذلك للمرة الأولى منذ عقود.

وبالفعل، فوفقاً لنائب وزير الصحة رضا مالك زاده، كلما سأله زملاؤه عن سبب استمرار الرحلات الجوية إلى الصين، كانت العلاقات الاقتصادية الثنائية من بين الأسباب التي قدّمها. وبعد يومين من حظر الحكومة على مثل هذه الرحلات، غرّد السفير الصيني تشانغ هوا بأن الرئيس التنفيذي لشركة “ماهان” حميد عرب نجاد أراد مواصلة التعاون مع بكين. ولم يحدّد أي من الرجلين ما يعنيه هذا بالضبط، لكن الرسالة الضمنية إلى طهران كانت واضحة بالنظر إلى استياء الصين من حظر السفر. وفي غضون ذلك، انتقدت وكالة أنباء الطلاب الإيرانية، “تابناك”، ووسائل إعلام محلية أخرى شركة “ماهان” لإعطائها الأولوية لهوامش الربح وتفضيلها على الصحة العامة.

مُنفِّسة اقتصادية

منذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي لعام 2015 وإعادة فرض العقوبات الأحادية الجانب، تراجعت التجارة الإيرانية بشكل حاد مع الكثير من دول العالم، بما في ذلك مع “الاتحاد الأوروبي” والشركاء الرئيسيين مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا. ووفقاً لبيانات الجمارك الصينية، انخفضت التجارة بين إيران والصين من أكثر من 34 في المائة في عام 2019 لتصل إلى 23 مليار دولار مقارنةً بعام 2018. بالإضافة إلى ذلك، أفسدت العقوبات الأمريكية معاملات العملات لدرجة أدت إلى تعطيل الصادرات الإيرانية في أواخر عام 2018.

أما على صعيد الطاقة، فتواصل بكين استيراد النفط الخام الإيراني رغم التهديدات الأمريكية بالعقوبات، مبررة ذلك على أن الخام هو دفعات متأخرة عن المساعدة السابقة [التي وفرتها الصين] في تطوير حقلَيْ “ياداوران” و”أزاديجان” في إيران. ومع ذلك، انخفضت واردات الصين الإجمالية من الخام الإيراني بأكثر من 3 ملايين طن في نيسان/ أبريل 2019 إلى أقل من 600,000 طن في تشرين الثاني/ نوفمبر. وفي الوقت نفسه، زعزع عدم اليقين الجغرافي السياسي استثمارات بكين في مجال الطاقة الأولية في إيران – ففي أواخر العام الماضي، أنسحبت “مؤسسة البترول الوطنية الصينية” من عقد بقيمة 5 مليارات دولار لتطوير المرحلة 11 من حقل “جنوب بارس” للغاز الطبيعي، وتركته إلى الشركة المحلية “بتروبارز”.

غير أنه رغم هذا الاضطراب، ورغم عدم قدرة الصين على المدى القريب على التعويض عن تدهور العلاقات التجارية بين إيران والأطراف الأوروبية الشريكة في الاتفاق النووي، تبقى بكين الشريك التجاري الوحيد الأكثر أهمية لطهران وعميل في قطاع النفط إلى حد بعيد. ووفقاً لشركة “كبلر” للبيانات، التي تتعقب تحركات السلع [الأساسية]، بقيت الصين أيضاً العميل الوحيد لإيران في مجال غاز البترول المسال منذ كانون الأول/ ديسمبر. وثمة مؤشرات أخرى تدل على هذا المسار نفسه. فخلال السنة المالية 2018/2019، احتل الرنمينبي (اليوان) المرتبة الثانية بين كافة العملات المدعومة التي خصصها البنك المركزي الإيراني للمستوردين (اليورو احتل المرتبة الأولى). وفي السنوات الأخيرة، احتكرت البضائع الصينية الرخيصة الأسواق الإيرانية بسبب تجارة المقايضة التي سببتها العقوبات، مما أدى إلى تخفيف الاحتياجات المحلية للمستهلكين، إن لم يكن إرضاءها.

وبالمثل، تولي طهران أهمية لدورها ضمن “مبادرة الحزام والطريق” الصينية. ففي أيلول/ سبتمبر الماضي، أعلنت بكين عن خطط لاستثمار 400 مليار دولار في البنية الأساسية لقطاعات الطاقة والبتروكيماويات والنقل والتصنيع في إيران خلال ربع القرن المقبل. وجاءت هذه الأخبار في وقت تراجعت فيه الاستثمارات الأجنبية المباشرة في إيران إلى مستويات منخفضة، إلى الحد الذي جعل وزير النفط بيجن نامدار زنغنه يوجه نظره إلى التمويل المحلي عوضاً عن ذلك. ومن بين مشاريع البنية التحتية القليلة التي لا تزال تديرها شركات أجنبية، مشروع خط سكة الحديد فائق السرعة “طهران – قم – أصفهان” الذي أنشأته “مجموعة سكك حديد الصين” المحدودة والممول بقروض من الصين. وعلى عكس ذلك، أعلنت “السكك الحديدية الروسية” الشهر الماضي انسحابها من مشروع كهربة السكك الحديدية [الإيرانية] التي تقوم به شركة “غارمسار-إنج بوروم” (Garmsar-Inche Borun) تحت ضغط العقوبات الأمريكية. ويؤكد كل واحد من هذه التطورات واقع كَوْن طهران بحاجة إلى الموارد المالية والخبرة الصينية أكثر بكثير مما تحتاجه الصين لاستثمار هذه الموارد والخبرات وإمدادها.

تجدر الإشارة إلى أن “مجموعة العمل المالي” التي مقرها في باريس أعادت إيران إلى قائمتها السوداء في شباط/فبراير لعدم تصديقها اتفاقيات تمويل الإرهاب وغسل الأموال. وستزيد مثل هذه القرارات من تعقيد قدرة طهران على إجراء المعاملات المالية بشكل قانوني مع الدول الأعضاء في “مجموعة العمل المالي”، بما فيها الصين وروسيا. وعبّر محافظ “البنك المركزي” الإيراني عبد الناصر هماتي عن مخاوفه بشأن هذا السيناريو. وبالمثل، وصف النائب شهاب الدين بيمقدار كيف أبلغت موسكو طهران سابقاً أنها لن تكون قادرة على مواصلة التعاون الاقتصادي إذا قامت “مجموعة العمل المالي” بإدراج إيران على القائمة السوداء. ومع ذلك، تحوم التجارة السنوية الإيرانية مع روسيا حول 2 مليار دولار فقط؛ وطهران أكثر قلقاً بكثير بشأن رد الصين، التي التزمت الصمت حتى الآن.

دعامة دبلوماسية

لا تزال بكين واحدة من الراعيتين الرئيسيتين لإيران من بين القوى العظمى، وخاصة في “مجلس الأمن الدولي”، لكنها تتمتع بموثوقية أكبر بقليل من موسكو. فالدولتان العظمتان تعارضان علناً العقوبات التي فرضتها واشنطن على طهران، خاصة في ظل الوباء الحالي. كما انتقدتا بريطانيا وفرنسا وألمانيا (الدول الأوروبية الثلاث المعروفة بـ E3) لتذرعها بآلية تسوية النزاعات في الاتفاق النووي بعد أن أزالت إيران جميع القيود المتبقية على برنامجها لتخصيب اليورانيوم.

وإذا انتهكت طهران المزيد من القيود النووية (على سبيل المثال، من خلال استئنافها التخصيب إلى نسبة 20 في المائة من النقاء الانشطاري)، فمن المتوقع أن تلغي بريطانيا وفرنسا وألمانيا تجميد المواعيد النهائية لإحالتها في نهاية المطاف إلى “مجلس الأمن”. وفي هذه الحالة، قد يكون دور الصين، إلى جانب روسيا، أساسياً – فالاتفاق النووي مصمم بطريقة تجعل استعمال دولة لحق النقض (“الفيتو”) كافياً لإعادة فرض العقوبات الدولية، لكنه يدعو أيضاً بشكل غامض إلى التوصل إلى نتيجة نهائية يتمّ التفاوض حولها.

وبالمثل، إن التأثير الدبلوماسي لبكين واضح في تعامل إيران مع الوباء. فمع تفاقم الأزمة، أفادت بعض التقارير أن طهران أمرت شركة “ماهان للطيران” بإرسال مساعدات إنسانية إلى الصين. ومن خلال السير بإيقاع موحد مع وسائل الإعلام الصينية المرتبطة بالحكومة، ذهب المرشد الأعلى علي خامنئي و«الحرس الثوري» إلى حد اتهام الولايات المتحدة بشن حرب بيولوجية على كل من إيران والصين. وفي الوقت نفسه، ربط مسؤولو الصحة المحليون ظهور المرض في قم – القلب النابض للإسلام الشيعي الإيراني – بحضور العمال الصينيين وطلاب الحوزات. حتى أن نائب وزير الصحة علي رضا رئيسي أكد أن هناك صلة مثبتة وبائياً بين المواطنين الصينيين والمسبب المرضي. ومع ذلك، ففي النهاية، قد تشير الرحلات المباشرة المستمرة لـ “ماهان” مع جمهورية الصين الشعبية (والتي قد تكون لأغراض الطوارئ أم لا) إلى حاجة طهران إلى استرضاء بكين بأي ثمن.

التمكين العسكري

في أعقاب سلسلة من المناورات البحرية الثنائية التي بدأت في عام 2014، أجرت طهران تدريبات ثلاثية غير مسبوقة مع الصين وروسيا في كانون الأول/ديسمبر الماضي. وقد تكون هذه التدريبات اسلوب بكين لثني الولايات المتحدة عن مهاجمة إيران في وقت يتسم بتوترات شديدة، أو خلاف ذلك زعزعة استقرار التجارة في المنطقة الغنية بالنفط؛ وإذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن تكون طهران قد اعتبرت هذه الخطوة دليلاً آخر على أنها لم تكن معزولة للغاية.

وعلى نطاق أوسع، كانت بكين قناة رئيسية لتزويد الأسلحة إلى إيران لما يقرب من أربعين عاماً، حتى أنها تجاوزت روسيا لفترة وجيزة في المبيعات بين عامي 2008 و 2012، عندما قامت موسكو بإعادة ضبط العلاقات مع إدارة أوباما والتي رافقها تدهور العلاقات مع طهران. وساهمت الصين بشكل كبير في تطوير الصواريخ الإيرانية، وأظهرت استعداداً أكبر لمشاطرة تكنولوجيا الدفاع المهمة من استعداد نظيراتها من المزوّدين الغربيين أو حتى الروس. وتستند العديد من الصواريخ وقذائف المدفعية الإيرانية قصيرة المدى على النماذج الصينية، في حين استفادت صواريخها الباليستية بعيدة المدى من التحديثات الصينية. وفي شباط/فبراير الماضي، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على ثلاث شركات صينية وفرد واحد بزعم مساعدتهم لبرنامج الصواريخ الإيراني. وبالمثل، كانت بكين الشريك الرئيسي لإيران في مجال التكنولوجيا النووية حتى عام 1997، حيث ساعدت في إنشاء العناصر الرئيسية لبرنامجها المدني الحالي.

لا غنى عن الصين

دعا القادة الإيرانيون مراراً وتكراراً إلى إقامة علاقات شاملة واسترايتجية مع الصين، وهو ثناء بادلتهم إياه بكين مبدئياً. ومع ذلك، كان القادة الصينيون أكثر حذراً تجاه دعوات إيران [لإقامة] تكتل معادٍ لأمريكا وطلباتها للحصول على العضوية الكاملة في “منظمة شنغهاي للتعاون”، التي غالباً ما يُنظَر إليها على أنها تحقق الهدف نفسه.

وعلى الصعيد المحلي، تواجه إيران تحديات متضخمة تتعلق بشرعية النظام وعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والاضطرابات العنيفة وفيروس كورونا ومشاكل أخرى. وعلى الصعيد الخارجي، عليها التعامل مع مجموعة من العقوبات الاقتصادية المرهقة والعزلة الدبلوماسية والتوترات العسكرية – والصين هي الدولة الوحيدة المستعدة لمساعدتها على هذه الأصعدة الثلاثة، والقادرة على القيام بذلك. وفي ظل الوباء المتفشي، تحتاج طهران حالياً إلى هذا الدعم أكثر من أي وقت مضى.

كيفن ليم

معهد واشنطن