لم يكن يتخيل أحد أن تهتز الثقة في سوق الأصول والملاذات الآمنة إلى هذه الدرجة، لكن الخسائر العنيفة والصادمة التي خلفها وباء كورونا، تسببت في أن يتخلى المستثمرون بل وعمالقة الشركات عن حيازة الأصول الآمنة، التي في الغالب ما يتم اللجوء إليها في أوقات الأزمات والخسائر العنيفة.
قبل ذلك وحينما كانت ثقة المستثمرين تهتز في أسواق الأصول الخطرة أو الآمنة، غالباً كان المستثمرون يهرعون إلى أسواق بديلة مثل العقارات التي يحكمها منطق واحد وهو أن “العقار يمرض ولا يموت”، لكن في الوقت الحالي، طفا على السطح الاقتصاد الطبي، الذي يتصدر في الوقت الحالي قائمة الملاذات والأصول الآمنة، حيث يعد من الاستثمارات التي تحقق أرباحاً قياسية مع هرولة الأفراد والحكومات على بعض الأدوات والأجهزة التي تستخدم في مواجهة وباء وتداعيات الإصابة بكورونا.
وأدى تزايد معدلات الإصابات والوفيات بفيروس “كورونا” على مستوى العالم إلى تصاعد الطلب بشكل غير مسبوق على المعدات الطبية بما في ذلك أجهزة التنفس الاصطناعي، وهو ما قاد تباعاً إلى ارتفاع أسعارها، الأمر الذي فرض على المراكز البحثية، والجامعات، والشركات الخاصة في الدول العربية التجهيز لإنتاج هذه النوعية من الأجهزة، شريطة التزامها بمعايير الجودة والكفاءة، لأنها مسألة تتعلق بحياة ليس فقط الأفراد وإنما المجتمعات.
وبرزت عدة أبعاد لتزايد اقتصادات أجهزة التنفس الاصطناعي في الإقليم، ومنها تأمين احتياجات السوق المحلية، واختبار التعاون بين الهيئات والمؤسسات الحكومية، وتصاعد مطلب نواب البرلمان بتصنيع أجهزة محلية للتنفس الاصطناعي، وتعزيز الشراكة مع الهيئات الطبية المحلية الخاصة، كما أنها تشكل إرهاصات “أنسنة” في التفاعلات الدولية والإقليمية.
شركات عملاقة تبدأ إنتاج أجهزة تنفس اصطناعي
دراسة حديثة أعدها مركز “المستقبل” للأبحاث والدراسات المتقدمة، أشارت إلى تعدد محاولات وتجارب إنتاج شركات التصنيع في المنطقة العربية كميات من أجهزة التنفس الاصطناعي، نظراً لإيقاف الدول المصنعة تصديرها من ناحية وتزايد الطلب الهائل عليها لمواجهة فيروس “كورونا” المستجد من ناحية أخرى، بل إن هناك توجهاً عالمياً بتحويل نشاط عدد من الشركات الدولية ذات الصيت لتصنيع وإنتاج أجهزة التنفس الاصطناعي مثل “فورد” و”جنرال موتورز” و”بيجو” و”سيتروين” و”تيسلا”، إذ تقوم تلك الأجهزة بوظائف إمداد الأكسجين ومحاكاة عملية التنفس، على نحو يسمح لرئتي المريض بالراحة والتعافي. وبدون دعم التهوية، قد لا يستطيع عدد من المرضى، الذين يعانون أمراض الجهاز التنفسي الحادة، العيش.
وتتمثل الأبعاد الخاصة بتبلور نمط اقتصادات أجهزة التنفس الاصطناعي في الدول العربية، مثل مصر والسودان والمغرب والجزائر وسوريا والعراق، في تأمين احتياجات السوق المحلية، حيث يعاني بعض دول الإقليم نقصاً في الأجهزة التنفسية الاصطناعية، وهو ما يفسر اجتهاد الهيئات الصحية لتوفيرها بصناعة ذاتية تعوض النقص الحاصل من هذه المعدات المستوردة وتؤمِّن حاجة السوق المحلية في حال استمرار انتشار فيروس كورونا، الأمر الذي يتجه إليه عدد من المبادرات الخاصة في دول مثل مصر والسعودية ولبنان بتشكيل مجموعات عمل من أطباء ومهندسين وتقنيين بهدف ابتكار وتصميم نماذج أولية لأجهزة التنفس محلية الصنع.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى مبادرة “تنفس” التي طرحها مدحت نافع رئيس الشركة القابضة التابعة للصناعات المعدنية، وعدد من المهتمين، في أبريل (نيسان) الحالي، لتصنيع نحو 5 آلاف جهاز تنفس اصطناعي، حيث تم تشكيل مجموعات عمل مكونة من لجنة مركزية وحاضنة مجموعات بحثية ومجموعة عمل التمويل، ومجموعة عمل الاتصال وتبادل المعلومات، ومجموعة عمل تحليل الاحتياجات والمكونات، إضافة إلى مجموعة عمل دراسة مواقع المصانع وتأهيلها، لمواجهة احتمالات تفشي الفيروس، مع الأخذ في الاعتبار ندرة بعض الأجهزة اللازمة لتشغيل الجهاز.
من بين الأعباء الخاصة بتبلور نمط اقتصادات أجهزة التنفس الاصطناعي في الدول العربية، اختبار التعاون بين الهيئات والمؤسسات الحكومية، حيث كشفت وزارة الصناعة والمعادن العراقية، في بيان لها قبل أيام، عن نجاح شركة “أور العامة” في تصنيع نموذج رابع لجهاز التنفس الاصطناعي. وذكر البيان أن الإنجاز يأتي “بعد نجاح كل من الشركة العامة للزجاج والحراريات والشركة العامة للصناعات الكهربائية والإلكترونية وشركة الزوراء العامة في تصميم وتصنيع نماذج لأجهزة التنفس الاصطناعي اعتماداً على الجهود والإمكانات الذاتية والخبرات المتراكمة لكوادرها من أجل إسناد ودعم وزارة الصحة وتلبية حاجتها من هذه الأجهزة لإسعاف المصابين بفيروس كورونا”.
وأوضح البيان، أن “الشركة كانت سباقة في اتخاذ قرارات عدة أهمها تشكيل خلية أزمة أخذت على عاتقها تنفيذ جميع الإجراءات الوقائية والاحترازية للوقاية من الفيروس وتشكيل فريق فني هندسي لتصنيع جهاز تنفس اصطناعي وفق الإمكانيات المتاحة”، لافتاً إلى أن “الفريق تمكن وبوقت قياسي وكلفة رمزية من تصنيع الجهاز حسب المواصفة العلمية والفنية المطلوبة”. وأكد أن “نجاح تصنيع جهاز التنفس الاصطناعي يثبت قدرة الصناعة العراقية على الإنتاج والعطاء في كل الظروف والصعاب لخدمة البلد والمواطن”.
وينطبق ذلك على المغرب التي تحاول البدء في تصنيع أجهزة التنفس الاصطناعي لمكافحة كورونا، حيث تشير بعض وسائل الإعلام إلى توفير 500 جهاز للاستخدام، في منتصف أبريل (نيسان) الحالي، بعد التعاون بين وزارة الصناعة ووزارة الصحة وهيئات عامة أخرى وقطاع صناعة الطيران والإلكترونيات. وكذلك الحال بالنسبة للسودان، إذ أعلن وزير الثقافة والإعلام فيصل محمد صالح، في 28 مارس (آذار) الماضي، عن تصنيع أجهزة للتنفس الاصطناعي في بلاده، بالتعاون مع التصنيع الحربي.
كما وقع اتحاد الصناعات وبنك الشفاء مذكرة تفاهم مع الهيئة المصرية للشراء الموحد، في 6 أبريل (نيسان) الحالي، للمساهمة بالدعم المالي لرفع كفاءة وصيانة 460 جهاز تنفس اصطناعي بالقطاع الطبي الحكومي، وهو ما يأتي في سياق الإجراءات التي تتخذها الحكومة المصرية لمواجهة “كورونا”، التي من شأنها التأكد من جاهزية المنشآت الطبية ووحدات الرعاية المركزة للتعامل مع الحالات الخطرة التي تصاب بخلل في وظائف الجهاز التنفسي، وأيضاً في ظل العجز العالمي في توفير الأعداد المطلوبة من أجهزة التنفس الاصطناعي. ودعا اتحاد الصناعات وبنك الشفاء مجتمع الأعمال والمجتمع المدني للانضمام لهذه المبادرة لمساندة الجهود الحكومية.
تعزيز الشراكة مع الهيئات الطبية المحلية الخاصة
في الوقت نفسه، تزايدت مطالب نواب البرلمان بتصنيع أجهزة محلية للتنفس الاصطناعي، وهو ما عبرت عنه الحالة المصرية، إذ تقدم عضو مجلس النواب المصري إسماعيل نصر الدين، بطلب إحاطة، في 31 مارس (آذار) الماضي، موجه لرئيس مجلس الوزراء، ووزير التجارة والصناعة، ورئيس اتحاد الصناعات، طالب فيه بضرورة تفعيل دور المصانع المصرية لإنتاج أجهزة تنفس اصطناعي لمواجهة تداعيات فيروس كورونا. وهو ما يتزامن مع وجود تحالف يضم عدداً من المؤسسات الاصطناعية الوطنية المصرية، وعلماء مصريين بالخارج، وأساتذة جامعات، لتصنيع جهاز تنفس اصطناعي بتكلفة أقل من الجهاز المستورد، ويتسق مع توجيهات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بالعمل على تصنيع أجهزة التنفس الاصطناعي والمستلزمات الطبية في البلاد.
وحول تعزيز الشراكة مع الهيئات الطبية المحلية الخاصة، أشارت الدراسة إلى قيام الشركة الجزائرية الخاصة مثل “غلوبال ألجيريان تكنولوجي” بتطوير نموذج أولي لجهاز تنفس اصطناعي قابل للتشغيل، بالتعاون مع منتدى رؤساء المؤسسات، وبالشراكة مع مركز تطوير التكنولوجيات المتقدمة وجامعة عين تموشنت، وكذلك الوزارات المعنية، فضلاً عن جزائريين من كفاءات المهجر، شريطة اعتماده من قبل السلطات الصحية والهيئات الاصطناعية، وفقاً لتصريحات صحافية في 2 أبريل الحالي.
وقال منتدى رؤساء المؤسسات في بيانه حول هذا النموذج، إن “هذا الإنجاز دليل قاطع على التزامنا من أجل تطوير البحث العلمي والتنمية في مؤسساتنا، تقريب المؤسسات والجامعات ومراكز البحث العلمي وتسهيل مرافقة مبادرات الفاعلين الاقتصاديين من أجل إنتاج قيمة مضافة حقيقية في محيطنا الاقتصادي لبلادنا وللسكان”.
فيما تشكل إرهاصات “أنسنة” في التفاعلات الدولية والإقليمية، حيث برز تكاتف عالمي لمواجهة الوباء، لا سيما بعد تكدس غرف العناية المركزة في بعض الدول بالمصابين بفيروس كورونا، وهو جزء من إشكالية حادة تواجهها المنظومات الطبية في الدول المتقدمة والنامية، على نحو دفع بعض القوى الدولية مثل روسيا والصين، والقوى الإقليمية مثل الإمارات ومصر إلى توجيه مساعدات لدول كبرى لمواجهة فيروس كورونا.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن الشركات العالمية المنتجة لأجهزة التنفس الاصطناعي تتجه لإنتاج كميات كبيرة وبأسعار زهيدة للوفاء باحتياجات المستشفيات على مستوى العالم لإنقاذ آلاف الأرواح، بل إن هناك بعض الشركات منحت حقوق التصنيع لكل الدول مجاناً، لا سيما بعد نجاح إحدى الشركات البولندية في تصميم جهاز تنفس اصطناعي “فنتيل إيد” بسعر لا يتعدى 44 يورو (47.96 دولار). غير أن ذلك لا ينفي أن هناك اتجاهاً مضاداً، وإن كان أقل تأثيراً في التفاعلات الدولية، يعكس حسابات براغماتية في المقام الأول.
وأكدت الدراسة أن هناك دلالات سياسية عاكسة لعملية إنتاج أجهزة تنفسية اصطناعية في دول الإقليم ومنها أهمية التوطين المحلي للصناعات الطبية وخاصة في فترات الأزمات، وتوفير مساحات لتعاون المؤسسات الحكومية مع بعضها، وتنسيق الجهود بين الهيئات الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني للتصدي لهذا الخطر، وتجاوز حقوق الملكية الفكرية من الشركات العالمية لصالح الهيئات الطبية المحلية بما يعطي نوافذ فرصة لمواجهة خطر وباء عالمي.
خالد المنشاوي
اندبندت عربي