كما كان متوقعاً ومتماشياً تماماً مع منطق الأحزاب والتحالفات السياسية في دولة الاحتلال، توصل «الخصمان» رئيس حكومة تصريف الأعمال وزعيم كتلة «ليكود» بنيامين نتنياهو، وزعيم تحالف «أزرق أبيض» بيني غانتس، إلى اتفاق على تشكيل حكومة طوارئ وطنية عمرها ثلاث سنوات، يترأسها نتنياهو خلال 18 شهراً الأولى، ويعقبه غانتس في مدة مماثلة. وهكذا اتضح أن «الخصومة» بين الرجلين مثلما بين الكتلتين في الواقع، لم تكن كاذبة وزائفة وتكتيكية ومرحلية فقط، بل كانت أقرب إلى المناورة الانتهازية تحيّناً لأية فرصة ملائمة تتيح اقتسام الكعكة، وهذا ما وفرته جائحة كورونا بعد أن عجزت عن توفيره ثلاث دورات انتخابية خلال قرابة عام.
وعلى نقيض الكثير من الاتفاقات التي تنطوي بنودها على غموض متعمد يبيح التنصل أو نكث التعهدات أو عكس المنطوق القانوني، تبدو اتفاقية نتنياهو ـ غانتس مدهشة في وضوحها وجلية تماماً من حيث طبيعة التنازلات التي تشترطها. واللافت الأبرز الذي لم يخف على أحد هو نجاح نتنياهو في تثبيت الوعود التي قطعها لناخبيه، أي فرض سيادة الاحتلال على غور الأردن ومستوطنات الضفة الغربية بما يعادل 30٪ من الأراضي الفلسطينية، والإبقاء على إعفاء اليهود المتشددين من الخدمة العسكرية، وتحجيم المحكمة العليا عن طريق السيطرة على تعيينات القضاة، بالإضافة إلى البقاء على رأس الحكومة…
في المقابل لا يلوح أن غانتس حقق الكثير سوى الإخلال بوعوده التي كانت نقائض وعود نتنياهو على وجه الدقة، وحيازة «أزرق أبيض» على 18 حقيبة وزارية، بينها الدفاع والشؤون الخارجية والعدل ليس تحت رئاسة نتنياهو فقط بل طوال السنوات الثلاث من عمر حكومة الطوارئ هذه. كذلك يتفاخر غانتس أنه ألزم نتنياهو بمبدأ اقتصار قوانين الحكومة الجديدة على معالجة مشكلات جائحة كورونا، الأمر الذي لم يمنع الشريكين من التواطؤ على تمرير احتياجات نتنياهو، خاصة ضم الأراضي ابتداء من شهر تموز/ يوليو المقبل، وانتقاء القضاة المعنيين بمحاكمة نتنياهو في قضايا الفساد.
ورغم أن بعض المعلقين الإسرائيليين أطلق على هذه الحكومة صفة «تحالف النصابين» أو «ائتلاف لصوص المقاعد»، إلا أن غالبية هؤلاء استبشرت خيراً باتفاق نتنياهو ـ غانتس، لأنها تُخرج دولة الاحتلال من مأزق سياسي عالق، أو لأن جائحة كورونا تقتضي توحيد الصفوف وتقديم التنازلات درءاً للأخطار، أو لأنها تضع غانتس في وزارة الدفاع وغابي أشكنازي في الخارجية مما يجعل استئناف الحوار مع الفلسطينيين أمراً ممكناً أفضل من ذي قبل.
وهؤلاء يتناسون أن شخصيات إسرائيلية أكثر اعتدالاً من غانتس وأشكنازي سبق لها أن حصدت الفشل الذريع في محاولات إعادة نفخ الحياة في جثة عملية السلام التي باتت شبه هامدة، لسبب جوهري هو أن غالبية الرأي العام الإسرائيلي لا تؤمن بالسلام وتفضل ترقية جنرالات ومجرمي حرب مثل غانتس إلى مصاف «الخصم» المنافس لأمثال نتنياهو، والذي يمكن أن يختلف معه في كل شيء ما عدا شن الحرب على قطاع غزة أو توسيع الاستيطان أو ضم الأراضي أو سن القوانين والتشريعات العنصرية.
وبمعزل عن الاتفاق أو الاختلاف حول الخاسر أو الرابح في اتفاق نتنياهو ـ غانتس، ليس ثمة كبير شك في أن جثة السلام هي الضحية المؤكدة.