امتحانات الاتحاد الأوروبي… بريكست وكورونا و”ثقافة” الأنانية

امتحانات الاتحاد الأوروبي… بريكست وكورونا و”ثقافة” الأنانية

أوروبا المسترخية على ظهر أميركا تستحق لقبها: القارة العجوز. والاتحاد الأوروبي المصدوم بقضايا وأسئلة مصيرية متردد في التفاهم على أجوبة جماعية. فالتضامن الذي واجه به خروج بريطانيا منه افتقده في مواجهة كورونا. والتحديات التي أمامه تبدو أكبر من قدرته على استعادة قوته وحتى من رغبته في الوقوف مع الذات. لا هو خرج عملياً من صدمة بريكست. ولا هو تصرف كاتحاد بكل معنى الكلمة في محنة كورونا. وأقل ما يصح فيه هو قول المفكر الفرنسي الكسيس دو توكفيل، في القرن الـ 19، بعد إعجابه بالتجربة الأميركية التي صنعها أوروبيون أصلاً، “إن الأنانية للمجتمعات مثل الصدأ للمعدن”.

قبل ألف سنة كانت الصين مركز الحضارة. ومنذ قرون صارت أوروبا مركز الكون. أهم الاختراعات حدثت في أوروبا. أبرز الأفكار والنظريات الأيديولوجية والفلسفية والروائع الأدبية جاء بها مفكرون ومثقفون وفلاسفة وشعراء وروائيون أوروبيون. روما حكمت العالم. البندقية سيطرت على التجارة في أجزاء من العالم، بحيث كتب ماكيافيللي أن على أي جمهورية أن تقرر ماذا تريد أن تكون “روما أو البندقية”. بريطانيا أقامت إمبراطورية “لا تغيب عنها الشمس”. البرتغال استعمرت البرازيل. إسبانيا استعمرت أميركا اللاتينية. بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا تنافست على أفريقيا. الإمبراطورية القيصرية الروسية تحولت إمبراطورية شيوعية. نشرت أفكار ماركس وممارسات لينين وستالين في العالم. أميركا صناعة أوروبية. الشرق الأوسط الحديث صناعة أوروبية. وكل موجات اللاجئين اليوم تتوجه نحو أوروبا على الرغم من المصاعب وخطر الموت في البحر.

أيام المحافظين الجدد وجنون استخدام القوة في أفغانستان والعراق، قيل “الأميركيون من المريخ والأوروبيون من الزهرة”. واليوم كشف كورونا نقاط الضعف الكافية في ظل الإعجاب بتجربة الاتحاد الأوروبي الناجحة بعد حربين عالميتين. كل دولة حاولت مواجهة الوباء بمفردها. ألمانيا وهولندا رفضتا الدعوات التي انطلقت من إيطاليا وإسبانيا إلى “التشارك” في الخسائر عبر إصدار “سندات كورونا”. صحيفة “دي فيلت” الألمانية سخرت من الفكرة، بالقول “المافيا تنتظر أموال الاتحاد الأوروبي”. رئيس الوزراء الإيطالي جيوسيبي كونتي وجد نفسه بالتفاهم مع رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشير يقول “إما أن تكون أوروبا على مستوى التحدي أو علينا التخلي نهائياً عن الحلم الأوروبي، ويذهب كل منا في طريقه”. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رأى “إننا في لحظة حاسمة لمعرفة إن كان الاتحاد الأوروبي مشروعاً سياسياً أو مجرد مشروع سوق”. و”أنا أعتقد أنه سياسي ويجب أن تأتي مفاهيم التضامن الإنساني قبل الاقتصاد”.

والواقع أن جان مونيه “مهندس” الجماعة الأوروبية، التي بدأت باتفاق “الحديد والصلب”، اعترف بأن “الغايات كانت دائماً سياسية، والوسائل اقتصادية”. لا بل قال بعد مرور وقت على التجربة وتطورها إنه “لو أتيح لنا بدء التجربة من جديد، لكان علينا البدء من الثقافة قبل الاقتصاد”. وتلك هي المسألة. فلا ثقافة أوروبية واحدة تبنى عليها “الشخصية الأوروبية” المتقدمة على الهويات القومية. ولا تحرك واسعاً إلى الأمام للاتحاد الأوروبي من دون أن تلعب فرنسا وألمانيا دور المحرك والقاطرة، قبل انضمام بريطانيا وبعد خروجها.

المستشار الألماني الراحل هلموت كول، الذي جرى توحيد ألمانيا في عهده، قال لأحد أصدقائه “أنا آخر أوروبي حقيقي”. فهو رأى كيف وقف الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر ضد توحيد ألمانيا، إلى حد أن سياسياً فرنسياً قال “أنا أحب ألمانيا بحيث أريد منها اثنتين”. وهو أدرك صعوبة التوحيد من دون دعم أميركي بتفاهم مع موسكو. واليوم يواجه الاتحاد الأوروبي من بين تحدياته، رغبة الرئيس دونالد ترمب في تفكيك الاتحاد، وحرص الرئيس فلاديمير بوتين على “تفخيخه” وتمويل اليمين الشعبوي الفوضوي. ولم يكتم توماس مان القول إن المطلوب “أوروبا ألمانية لا ألمانيا أوروبية”.

والامتحانات صعبة أمام أوروبا. من امتحان الهوية الثقافية إلى البحث عما سمي “الحكم الذاتي الاستراتيجي” في الدفاع عن القارة، بعدما قال ماكرون إن الناتو في “موت دماغي”، ومن صدمة بريكست إلى محنة كورونا. والمخيف هو أن تبدو الديمقراطية الأوروبية عاجزة أمام الشمولية والسلطوية في الصين وروسيا.

اندبندت عربي

رفيق خوري