قلّما شهد التاريخ حاكماً تتحوّل كافة مبادراته إلى أفشال مثلما هي حال متولّي العرش السعودي، محمد بن سلمان. فمن التدخّل العسكري في اليمن إلى تصعيد الصراع مع إيران إلى احتجاز سعد الحريري إلى اغتيال جمال خاشقجي، وهلمّ جرّا، ما من مبادرة أشرف عليها الشاب الأرعن والمعتدّ بنفسه إلّا وأفضت إلى كارثة إنسانية أو سياسية أو الاثنتين معاً. وها هو يُصاب بفشل ذريع آخر، هذه المرّة في استخدامه لسلاح النفط وقد ارتدّ عليه كارثةً اقتصادية.
ومهما كانت الغاية الحقيقية لخوض متولّي العرش حربه النفطية بتشجيع من عرّابه الأمريكي دونالد ترامب، وقد سبق لنا على هذه الصفحات (10/3/2020) أن شكّكنا في الرواية الرسمية للصراع مع روسيا ورأينا دوراً رئيسياً للهاجس الإيراني في المسلكين السعودي والأمريكي، فإن شنّ المملكة لتلك الحرب القائمة على مرادف اقتصادي لتنافس الصبيان على من يحبس أنفاسه مدّة أطول تحت سطح الماء، شنّها تلك الحرب في وقت كانت معالم الأزمة العظمى الناجمة عن وباء كوفيد-19 قد أخذت ترتسم بوضوح في أفق الاقتصاد العالمي، إنما شكّل ذروة في قصر النظر سوف يدوّنها التاريخ في سجلّ حالات غباء الحكّام القياسية.
وإنها لتعزية هزيلة لبن سلمان أن يشاركه عرّابه الأمريكي في خطأ التقدير، وقد أدرك الأخير بعد فوات الأوان أنه ارتكب حماقة بتشجيعه متولّي العهد على شنّ الهجمة النفطية في هذا الظرف بالذات. شجّعه ظنّاً منه أن التأثير الإيجابي لانخفاض الأسعار على محفظة المستهلك الأمريكي من شأنها أن تعزّز فرَصه الانتخابية، علاوة على خنق الاقتصاد الإيراني. غير أن ترامب لم يتوقّع هو أيضاً أن تصل الأسعار إلى الحضيض الذي بلغته، بحيث حلّت كارثة بصناعة استخراج النفط الصخري الأمريكية في وقت يُنذر هبوط الأسعار بأن يدوم وقتاً أطول بكثير مما يحلو للرئيس الأمريكي أن يعتقد. وقد انعطف ترامب نحو تدبير اتفاق بين الرياض وموسكو على تخفيض الإنتاج أملاً بإعادة رفع الأسعار، بلا جدوى. فما بقي له في مؤتمره الصحافي مساء الإثنين الماضي سوى أن يحاول طمأنة مستخرجي النفط الأمريكيين بتبشيرهم مرّة أخرى بأن الأزمة عابرة لن تطول، وهو استغباء للناس على عادة الرئيس الأمريكي.
لكنّ الحقيقة تبقى أن هبوط أسعار النفط في هذا الظرف يلائم تماماً مصلحة الاقتصاد العالمي، باستثناء مصدّري النفط، حيث بات السؤال الكبير الذي يقف أمامه مصير العالم هو: هل ينتعش بسرعة الاستهلاك العالمي بعد اجتياز ذروة انتشار الوباء، بحيث لا تتحوّل الأزمة الراهنة إلى كساد طويل ذات عواقب اجتماعية وسياسية قد تشبه ما حلّ بالعالم في زمن «الكساد الكبير» في ثلاثينيات القرن العشرين؟ إن أسعاراً منخفضة للنفط من شأنها أن تُسهم مساهمة كبيرة في إعادة إنعاش الاقتصاد العالمي من خلال تخفيض كلفة الإنتاج والنقل وتحفيز الاستهلاك.
إن أسعاراً منخفضة للنفط من شأنها أن تُسهم مساهمة كبيرة في إعادة إنعاش الاقتصاد العالمي من خلال تخفيض كلفة الإنتاج والنقل وتحفيز الاستهلاك
ولا يمثّل عمّال استخراج النفط في الولايات المتحدة سوى كمّ بسيط، إذ يقدّر أن نصف عدد عمّال القطاع، أي 75،000، سوف يلتحقون بصفوف البطالة من جرّاء الأزمة، وهو عدد هزيل بالمقارنة مع العدد الإجمالي للعاطلين عن العمل في الولايات المتحدة الذي فاق 22 مليوناً بسبب الأزمة الراهنة، ولا يني يتصاعد!
أما مصدّرو النفط، وفي طليعتهم المملكة السعودية كبلد، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كمنطقة، فيقفون على حافة الهاوية. ولنبدأ بالمملكة التي يشكّل تصدير النفط ما يناهز 90 بالمئة من مداخيل الدولة فيها. فلم يتعدّ المدخول الصافي لشركة أرامكو 88 مليار دولار في عام 2019 بسعر وسطي للخام السعودي ناهز 64 دولاراً للبرميل، بينما تحتاج المملكة لسعر متوسط لا يقلّ عن 80 دولاراً كي تغطّي احتياجات موازنتها. وإذا أضفنا إلى ذلك أن المملكة سوف تخسر ما تجنيه عادة من موسم الحجّ، أي حوالي 12 مليار دولار، فهذا يعني أنها سوف تضطر لاستخدام جزء كبير من احتياطيّها المالي. وقد انخفض هذا الأخير بنسبة الثلث إلى ما يناهز 500 مليار دولار منذ الحرب النفطية السابقة التي شنّتها المملكة قبل ست سنوات والتي طال أثرها بحيث بقيت الأسعار دون 80 دولاراً منذ ذلك الحين، بعد أن كانت تفوق 100 دولار قبله. وهذا يعني أن سياسات التقشّف في المملكة سوف تتفاقم بما يؤثر بدوره على الحالة الاقتصادية العامة فيها. والأمر نفسه سينطبق على الدول الثرية الأخرى في مجلس التعاون الخليجي، علماً بأن دولاً كالإمارات وقطر والكويت تحوز على احتياطي مالي أعظم بكثير من الاحتياطي السعودي قياساً بتعداد سكّانها وحجم اقتصادياتها.
أما الدول المصدّرة للنفط والغاز غير الثرية في منطقتنا، لاسيما إيران والعراق والجزائر التي تواجه جميعاً أزمة اجتماعية وسياسية حادة حفّزها انخفاض أسعار النفط في السنوات الست المنصرمة وقد شهدت انتفاضات شعبية عارمة، فسوف تشتدّ فيها الأزمة بما سوف يؤدّي إلى عودة الغضب الشعبي إلى الانفجار على مستويات تفوق ما جرى حتى الآن. وماذا عن سائر بلدان المنطقة الأقل ارتهاناً بتصدير النفط والغاز أو المستورِدة لهما؟ فقد يُظنّ أنها سوف تستفيد من هبوط أسعار النفط على غرار ما وصفنا أعلاه في صدد معظم بلدان العالم. لكنّ الحقيقة هي أن منطقتنا برمّتها مُدمنة على النفط، إذ إنها تعتمد على المداخيل النفطية سواءً جنتها بصورة مباشرة أو وصلتها فُتات منها بشكل معونات واستثمارات خليجية. وإذا أضفنا إلى ذلك انخفاض صادراتها العامة بسبب الأزمة العالمية، فإنها مقبلة هي أيضاً على احتدام كبير للتوتّرات الاجتماعية والسياسية فيها، من شأنه أن يوقد السيرورة الثورية الإقليمية التي سوف تختم عقدها الأول في نهاية هذا العام.
جلبير الأشقر
القدس العربي