من المؤكد أن يترك وباء كورونا بصماته على الجغرافيا السياسية والاقتصادية العالمية، لكن تساؤلات كثيرة لا تزال تحيط بعواقبه، فهل يسدد ضربة قاضية للنهج التعددي المتداعي؟ وهل يصعّد الاستقطاب الاقتصادي/ السياسي المتنامي بين الولايات المتحدة والصين؟ وهل يؤذن بعصر الشمولية الرقمية؟ يرى وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في مقابلة أجرتها معه صحيفة «لوموند» خلال الأسبوع «أخشى أن يشبه عالم ما بعد الوباء تماما عالم ما قبله، لكن بمنحىً أسوأ». ويضيف «يبدو لي أننا نشهد تعميقا للفجوات التي يعاني منها النظام العالمي منذ سنوات».
فشل شعبوي؟
ومن العواقب التي تبدو مؤكدة للوباء تسارع تدهور النهج التعددي الذي طغى في حقبة ما بعد الحرب العالمية وحتى منتصف العقد الثاني من الألفيّة، تحت ضغط النزعة التوسعية الصينية الممنهجة من جهة، والنهج الأمريكي الأحادي في عهد الرئيس دونالد ترامب من جهة أخرى.
ولخص دومينيك ستراوس كان، المدير العام السابق لـ»صندوق النقد الدولي»، موازين القوى الحالية في مجلة «بوليتيك إنترناسيونال» بالقول أن «الولايات المتحدة، العالقة بين تمنعها عن القيام بأي تحرك تعددي ومواجهتها مع بكين، ستجد صعوبة في تفادي إعادة توزيع للأوراق، لكن الكثير يتوقف بالطبع على الانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد شهور قليلة. الصين ليست في موقع يُخوِّلها تولي دور الزعامة العالمية، لكن من غير المؤكد أن الولايات المتحدة ستظل قادرة على ذلك».
وجاء في مذكرة صدرت عن «معهد البحث الإستراتيجي» في باريس «يمكن المراهنة على أن أي قطب كبير من أقطاب القوة لن يخرج من الأزمة في موقع أفضل، سواء كدولة أو كنموذج».
الأزمة ستحدث حتما تحولا طويل الأمد في الاقتصاد العالمي
وفي هذه الأثناء يدفع النهج التعددي ثمن الوضع، سواء في «منظمة الصحة العالمية» التي قطعت عنها الولايات المتحدة التمويل، أو في منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك» التي فشلت في الحفاظ على أسعار النفط، أو في مجلس الأمن الدولي الذي «لا نسمع صوته إطلاقا» حسبما قالت الباحثة ريجين بيرون، مؤلفة كتاب بعنوان «تاريخ التعددية: وهم القرن الأمريكي من 1918 إلى يومنا».
وقالت في مقابلة «النظرة المتفائلة تقضي بأن نغتنم الوضع لإعادة بناء التعددية على أسس جديدة بحيث تكون مطابقة أكثر لزمننا»، مشيرةً إلى أن «المخرج المثالي هو أن تَحلّ كيانات إقليمية (مثل الاتحاد الأوروبي) محلّ منظمات أصغر. لكن ما الذي سينبثق عن هذا التفكك؟ هل تكون النزعة السيادية؟ التعددية بشكل جديد؟ أو اللاليبرالية والشمولية الرقمية؟
يقول زكي العيدي، الأستاذ في كلية العلوم السياسية الفرنسية «نحن في حقبة عودة النهج السيادي، وهذه الأزمة ستحض حتما هذه الدول على المضي أبعد في النهج السيادي». وتشهد دول كبرى منذ سنوات صعود قادة غير ليبراليين يحققون نجاحات انتخابية، من المجر إلى تركيا مرورا بالفيليبين والبرازيل. فهل إدارة هؤلاء «الرجال الأقوياء» للأزمة الصحية ةتداعياتها الاقتصادية سيعطي زخما للتيار الشعبوي؟
يستبعد «معهد البحث الإستراتيجي» ذلك في مرحلة أولى، ويوضح أن «صعود الشعبوية في الحكم قد يتوقف» إذ ستعاقبها الشعوب على عدم كفاءتها و»قلة تعاطفها» مع الضحايا. كما ستطرح مسألة الشمولية الرقمية بعدما اكتسبت شرعية متزايدة بفضل أدائها في مكافحة الجائحة، من خلال تطبيقات على الهواتف المحمولة لتعقب المصابين وأنظمة لتحليل البيانات الخاصة.
وكتب يوفال نوح هراري، مؤلف كتاب «سابيانس (الإنسان العاقل)» الذي أدرجته صحيفة «فاينانشال تايمز» بين الكتب الأكثر مبيعا الشهر الماضي، أن «بلدانا كاملة تُستخدم حقل تجارب اجتماعية على نطاق واسع»، مضيفا أن العالم سيواجه خيارا جوهريا بين «المراقبة الشمولية» و»التعويل على حس المسؤولية لدى المواطنين».
عودة إلى رؤية ريكاردو الاقتصادية؟
وقال أيضا «إذا لم نحترس، فإن الوباء سيشكل نقطة انعطاف في تاريخ المراقبة. ليس لأنه قد يجعل استخدام أدوات المراقبة الجماعية أمرا طبيعيا في دول كانت ترفضها حتى الآن فحسب، بل خصوصا لأنه سيشكل تحولا ملفتا نحو مراقبة +تحت الجلد+». وأوضح أنه «حتى الآن، حين كنتم تنقرون بأصبعكم على رابط على هاتفكم الذكي، كانت الحكومة تريد أن تعرف ما هو هذا الرابط. أما الآن، فتريد الحكومة معرفة درجة حرارة إصبعكم وضغط الدم تحت جلدكم».
كما أن الأزمة ستحدث حتما تحولا طويل الأمد في الاقتصاد العالمي نتيجة استياء بعض الدول التي باغتها الوباء، ما سيعيد إلى الواجهة مفهوم الاستقلالية الإستراتيجية، وسيقود إلى التشكيك في عَولَمة شبكات التوريد ونظرية «الميزة النسبية» التي أثبت عالم الاقتصاد البريطاني ديفيد ريكاردو جدواها في المعاملات التجارية الدولية.
وأوضح برتران فاليورغ، أستاذ الاقتصاد في جامعة كليرمون أوفيرنيه الفرنسية، أن «هذه الرؤية الريكارديّة (نسبة إلى عالم الاقتصاد االبريطاني ديفيد ريكاردو 1772-1823) للتجارة الدولية حفزت على تطوير شبكات قيم عالمية للقرن الحادي والعشرين». ورأى في نشرة «ذي كونفرزيشن» الإلكترونية أن «الأزمة المالية عام 2008 تسببت بانكفاء في ديناميكية تطوير سلاسل القيمة العالمية. أما وطأة أزمة كورونا، فستكون أعمق وأكثر استدامة».
واعتبر أن «على أوروبا أن تعزز قدرتها على الصمود وتطور قواها الخاصة من خلال سلاسل قيمة تبقى بقسمها الأكبر من داخل أوروبا، تحميها سوق مشتركة وتشكل أفق سيادة يتم تأكيدها والدفاع عنها».
القدس العربي