قصة سوريا في لبنان ومعه طويلة، مذ اعتبرت أن إعلان “لبنان الكبير” عام 1920 “خطأ تاريخي”، ثم في التدخل العسكري غير المباشر في حرب لبنان عام 1975 الذي بدأ قبل الدخول العسكري المباشر. فلا الدور السوري بدأ مع الحرب، ولا هو انتهى بالخروج العسكري في مثل هذه الأيام قبل 15 سنة.
الدخول جاء باتفاق مع أميركا والخروج كان بقرار أميركي- فرنسي. ساعة الدخول دقت عندما رأت دمشق “خطر” قيام سلطة يسارية في لبنان بحماية البندقية الفلسطينية وسيطرة ياسر عرفات، تزايد عليها في الصراع العربي- الإسرائيلي والعلاقات مع موسكو. والتمهيد لقرار الدخول إلى لبنان جاء عبر اتفاق مع واشنطن يتضمن تفاهم “الخطوط الحمر” مع إسرائيل عبر وساطة المسؤول في الخارجية الأميركية جوزف سيسكو. واشنطن قالت للسوريين: لا تضغطوا كثيراً على لبنان، ولا تطيلوا البقاء فيه. وتفاهم الخطوط الحمر كان على امتناع القوات السورية عن تجاوز خط الليطاني جنوباً، وعدم استخدام الطيران السوري في الأجواء اللبنانية والبحرية السورية في المياه الإقليمية. وحين تبدلت الحسابات، جاء القرار الأميركي – الفرنسي بالخروج والذي صار قراراً في مجلس الأمن تحت رقم 1559، فلم تنفذه دمشق إلا بقوة الضغط الشديد بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) عام 2005.
أهداف عميقة
وليس هذا بالطبع كل السيناريو، لأن “الأجندة” السورية كانت أبعد وأعمق. ففي مباراة بالدهاء، بحسب رواية قديمة، قال معاوية بن أبي سفيان: أنا لا أدخل إلى مكان إن لم أضمن سلفاً باب الخروج. وقال عمرو بن العاص: أنا لا أدخل إلى مكان إن كنت أريد الخروج منه. لكن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد أخذ بالرأيين معاً. عمل في الكواليس مع واشنطن وسواها على طريقة معاوية. وعمل فوق المسرح على طريقة عمرو بن العاص: التمكين للبقاء، لأن القرار كان على عكس النصيحة الأميركية: الدخول من دون خروج. وعلى مراحل بدأ السوريون تفكيك النسيج الاجتماعي في لبنان، واختراع “قيادات” للطوائف تابعة لهم كبديل من القيادات التاريخية، والسيطرة على الأحزاب والنقابات وحتى البلديات. مارسوا “التعيين بالانتخاب” للرؤساء والنواب واختاروا الوزراء، وتركوا “الترويكا” الرئاسية (ثلاثي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب) عاجزةً عن حسم الأمور مضطرة للجوء إلى الحاكم الحكَم السوري. رفضوا إعادة انتشار قواتهم إلى منطقة البقاع (شرق لبنان) تنفيذاً لاتفاق الطائف الذي نص على أنه بعد سنتين من إقرار الإصلاحات بصورة دستورية تجتمع الحكومتان اللبنانية والسورية لترتيب ذلك الأمر. كانت الحجة من خارج النص، وهي اشتراط تنفيذ كل الإصلاحات، لا مجرد إقرارها بصورة دستورية. وفي الوقت ذاته، منعوا تنفيذ الإصلاحات لئلا ينفذوا إعادة الانتشار. حتى عندما بعث رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق أمين الجميل في الثمانينات برسالة رسمية إلى دمشق يطلب الانسحاب، رفض السوريون قائلين إنهم ينسحبون عندما يطلب الشعب اللبناني ذلك. وكان لا بد من الانتظار حتى تبدلت حسابات الكبار، ليسحب الرئيس السوري بشار الأسد قواته تحت عنوان القرار 1559 الذي سبق ووصفته دمشق بأنه “تافه”.
وصاية بالوكالة
لكن الوصاية السياسية السورية لم تنسحب مع القوات العسكرية. أنصار سوريا تظاهروا تأييداً لها. مفتاح بيروت أُعطي لممثل الوصاية المغادِر (اللواء رستم غزالة توفي عام 2015). معاهدة “الأخوة والتعاون” ومئات الاتفاقات بقيت، ولو من دون تنفيذ. المجلس الأعلى (اللبناني – السوري) لم يتم إلغاؤه. والوصاية السورية صارت وصاية بالوكالة “عبر حزب الله ومحور الممانعة” بقيادة إيران، ثم وصاية بالأصالة. فاليد العليا في لبنان اليوم هي لـ”حزب الله” الذي يمسك ليس فقط بقرار الحرب والسلم، بل أيضاً بالقرار السياسي الداخلي والسياسة الخارجية ويستخدم “الفيتو” في المسائل المالية والاقتصادية. ويمارس “خصخصة” الدفاع عن البلد ويرفض خصخصة المرافق العامة التي تساهم في إخراج لبنان من أسوأ أزمة نقدية ومالية واقتصادية. لا بل ذهب إلى سوريا ليقاتل إلى جانب النظام في حرب بدأت كانتفاضة شعبية تطالب بالانفتاح الديمقراطي. وتعيش سوريا اليوم وضعاً أخطر من وضع لبنان، فهي في حرب دخلت سنتها العاشرة من دون نهاية تلوح في الأفق. تتوزع أرضها، خمسة جيوش روسية وأميركية وإيرانية وتركية ودولية في ما بينها، إضافة إلى كل أنواع التنظيمات الأصولية التكفيرية. ثمانون في المئة من السوريين تحت خط الفقر، وفق إحصاءات الأمم المتحدة، نصف الشعب بين نازح في الداخل ولاجئ إلى الخارج. والبطالة في حدود 60 في المئة.
التأثير السوري
لا أحد يعرف كيف يكون مستقبل سوريا، لكنها حتى في وضعها الحالي، لا تزال تؤثر في لبنان. ويظهر ذلك خصوصاً في مواقف أنصارها. والمفارقة أن الرئيس السوري بشار الأسد قال أخيراً بعد التظاهرات الشعبية التي عمّت لبنان إن “لبنان يؤثر في سوريا أكثر من أي بلد آخر، لأنه جارنا المباشر”.
والكارثة في عمق الأزمات في لبنان، هي أن أخذ البلد إلى “محور الممانعة”، قاد إلى دفعه نحو عزلة عربية ودولية كبيرة، بصرف النظر عن المجاملات.
رفيق خوري
اندبندت عربي