فرض تفشي وباء كورونا وتداعياته الوخيمة على الاقتصاد العالمي في مختلف دول العالم على جل الخبراء القيام بعملية تنزيل تاريخي لكوفيد – 19 ومقارنته بجوائح أخرى مرت بها الإنسانية في العصر الحديث، خاصة أزمة الثلاثينات أو الحرب العالمية الثانية. هذا الطرح وإن كان منطقيا، فإنه أيضا يخرج بخلاصات أخرى مغايرة تقرّ بأن الكارثة الحالية ليست أسوأ من الأزمات السابقة، وأنها على العكس تماما حيث كشفت عيوبا كبيرة في الدول بشكلها الراهن، وهو ما يدعو إلى وضع حدّ لتغوّل الرأسمالية المتوحشة، وتأسيس رأسمالية الدولة.
تونس – عند الحديث عن تداعيات كورونا الاقتصادية، يميل الخبراء والمسؤولون إلى المقارنة بين التداعيات الاقتصادية للأزمة، وبين تداعيات الكساد العظيم، الذي وقع في ثلاثينات القرن الماضي، وأحيانا تجري المقارنة مع تداعيات الحرب العالمية الثانية على الاقتصاد.
وقد تتم المقارنة أيضا بين انتشار وباء كورونا وتداعياته وبين ما حدث في العالم عام 1918 حيث انتشر وباء عرف في ما بعد باسم “الإنفلونزا الإسبانية”.
ويميل الإعلام أحيانا إلى المبالغة عند إجراء مثل تلك المقارنات؛ وبينما حذرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجييفا، من أن أزمة كورونا ستحوّل النمو الاقتصادي العالمي إلى “سلبي بشكل حاد”، وأن العالم سيواجه أسوأ أزمة اقتصادية، منذ الكساد الكبير، ينقل كلامها محوّرا ليصبح، التداعيات الاقتصادية ستكون “أسوأ من أزمة الكساد الكبير”.
جورجييفا لم تقل “أسوأ من”، بل قالت “الأسوأ منذ”. وجاءت تحذيراتها قبل اجتماعات الربيع، التي يعقدها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بأسبوع واحد.
وكان صندوق النقد قد توقع، قبل ثلاثة أشهر، نموا إيجابيا في دخل الفرد، في أكثر من 160 دولة خلال عام 2020. واليوم، تقول جورجييفا، انقلب الأمر رأسا على عقب، لتصبح توقعات الصندوق سلبية، تشهد أكثر من 170 دولة خلالها تراجعا في دخل الفرد العام.
منظمة العمل الدولية، التي قالت إن الوباء يمثل “أشد أزمة” منذ الحرب العالمية الثانية، توقعت هي الأخرى أن يؤدي تفشي المرض، إلى إلغاء 6.7 في المئة من ساعات العمل في جميع أنحاء العالم، خلال الربع الثاني من عام 2020، وهو ما يعني فقدان 195 مليون عامل بدوام كامل لوظائفهم.
وقال الأمين العام للمنظمة، أنجيل غوريا، إن الاقتصادات تعاني من صدمة أكبر مما كانت عليه بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001، أو الأزمة المالية العالمية عام 2008.
صورة قاتمة جدا يشارك في صياغتها الخبراء والمنظمات الدولية، تقول الصورة إن نهاية العالم قادمة لا محالة. وترسخت هذه القناعة مع تهاوي أسواق البورصة وتهاوي أسعار النفط. حتى كدنا ننسى أن ما حدث من تداعيات هو نتاج استراتيجيات اتبعتها دول العالم، مكرهة، للحد من تفشي الوباء.
وزير الطاقة الجزائري، ورئيس مؤتمر منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”، محمد عرقاب، عارض النظرة التشاؤمية التي تناقلتها وسائل الإعلام، ورددها الخبراء، واعتبر أن هناك بوادر كبيرة لانتعاش الاقتصاد العالمي، وبالتالي انتعاش الطلب على النفط على المدى القصير والمدى المتوسط.
الاقتصاد الصيني بدأ في الانتعاش بعد نجاح البلد في احتواء الوباء، والدور سيكون قريبا على الاقتصاد الأوروبي والاقتصاد الأميركي.
وأكد عرقاب أن عجلة التنمية الاقتصادية ستعود إلى الدوران، خاصة في ما يتعلق بخدمات النقل، وهو ما سيرفع الطلب على المحروقات، ويمهد لاستعادة توازن سوق النفط.
وتوقع عرقاب أن يرتفع الطلب على المحروقات بداية من مايو المقبل، خاصة في النصف الثاني من العام الجاري، وهو ما سيسمح دون أدنى شك بعودة أسعار النفط إلى مستوياتها السابقة أي في حدود 50 – 60 دولارا للبرميل.
مقارنة التداعيات المحتملة لوباء كورونا مع تداعيات الأنفلونزا الإسبانية والكساد العظيم وما حدث أيضا إثر الحرب العالمية الثانية، لا يصحّ، ومضلل في نفس الوقت.
الوباء الذي تسبب فيه فايروس من عائلة “H1N1” أو ما عرف في ما بعد باسم “الإنفلونزا الإسبانية” ضرب العالم في ثلاث موجات، الأولى بدأت في مارس 1918؛ حدث ذلك خلال الحرب العالمية الأولى، واستمر حتى مطلع عام 1920، وقد خلف هذا الوباء بحسب أقل التقديرات قرابة 25 مليون ضحية، أو قرابة 50 مليون إنسان وفق أكثرها.
بعد عقد من انحسار وباء الإنفلونزا الإسبانية، بدأ زلزال آخر، هذه المرة انطلق من الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي؛ الساعة الحادية عشرة من يوم 24 أكتوبر عام 1929، وبعد ساعات قليلة من الافتتاح المعتاد للبورصة، بدأت الأسعار في التهاوي بسرعة، ليدب الذعر بين المضاربين، ويبلغ ذروته بحدود الساعة الحادية عشرة والنصف.
ومثلما حدث في الفقاعة العقارية عام 2008، كانت فقاعة المضاربة الأميركية في أواخر العشرينات تكبر دون أن ينتبه لها أحد.
ما حدث ذلك اليوم كان بسبب خطأ تراكم على مدى سنوات طويلة، ويمكن أن نستعين على وصفه بعبارة للكاتب البريطاني الساخر، برنارد شو، قالها عندما سئل عن رأيه في الرأسمالية، فمسك لحيته الخفيفة بيده وقال “كثافة في الإنتاج وسوء في التوزيع”.
بلغة الاقتصاد، كانت الولايات المتحدة تعاني من حالة عدم التساوي في توزيع الثروات، كما عرضها بوضوح الباحث في جامعة ميتشجان، جيمس سميث، في دراسته المعنونة “خارطة تركيز الثروات الشخصية في الولايات المتحدة”.
يقول سميث، في ذلك الوقت كانت 24 ألف عائلة فقط تحصل على دخل يفوق المئة ألف دولار سنويا، بينما 71 في المئة من الأسر الأميركية يقل دخلها عن 2500 دولار سنويا، وتمتلك العائلات الأكثر ثراء ثلث المدخرات، بينما لا يمتلك أربعة أخماس الأسر أي مدخرات.
وطبيعي في مناخ مثل هذا أن يصبح بيع وشراء الأوراق المالية والمضاربة في سوق المال والعقارات، الطريق الأسرع للربح، وأصبح حلم كل أميركي اقتطاع حصة من كعكة الثروة هذه.
وانعكس كل هذا في الإقبال المحموم على التسابق لامتلاك القصور، والسيارات الفارهة، واليخوت، والسلع الباهظة الثمن، وازدهرت صالات القمار.. إنه عصر “لاس فيغاس” بامتياز.
مظاهر سرعان ما أدت إلى انفجار فقاعة أسواق المال، وتزامن ذلك مع أعاصير موسمية ضربت سواحل فلوريدا وشواطئ ميامي وقتلت المئات، لتهبط أسعار العقارات دون أيّ مقدمات.
“فقط بالأمس”، العنوان الذي اختاره، فريدريك لويس، ونقل فيه الصورة من الداخل، “حيث نمت شركات الاستثمار مثل الفطر، هدفها زيادة ثروات أصحابها في أسرع وقت ودونما اعتبار لأي شيء سوى تحقيق الربح”.
ولم يستطع عمالقة “وول ستريت” في يوم أطلق عليه لاحقا “الخميس الأسود”، إنقاذ الموقف ومنع الانهيار الذي يحدث أمام أعينهم، وأفواههم فاغرة. تابعت أسواق الأوراق المالية انهيارها، وفقدت الأسهم قرابة 82 في المئة من قيمتها، وعمّ الخراب.
ما حدث في ذلك العام “لم يكن سوى البداية”.
امتد الانهيار ليعم القارة الأوروبية؛ شُلّ نظام الصرف، وانخفضت التجارة الدولية، وعانت البنوك في كل مكان، وعجز معظمها عن تغطية قروضها.
لم ينقذ النظام المصرفي من الانهيار الكامل سوى قرار للرئيس الأميركي روزفلت، أصدره بعد ثلاث سنوات تقريبا، حيث أمر بإغلاق جميع البنوك الخاصة عام 1933، وإعطاء إجازة لبقية البنوك. وكانت البطالة قد طالت في ذلك الوقت ربع القوى العاملة.
تبنى الكونغرس الأميركي خطة من ثلاث نقاط، هي: الإغاثة والإنعاش والإصلاح؛ إغاثة الفقراء، وإنعاش الاقتصاد، وإصلاح النظام المالي، حتى لا يتكرر مرة أخرى ما حدث يوم الخميس الأسود.
نعم، تبنت الولايات المتحدة إجراءات هي أقرب للشيوعية منها للرأسمالية، وصفت بأنها تحقيق للعدالة الاجتماعية، لتصبح الدولة أكبر مشغّل في البلاد، مطبقة في كل ذلك نظرية، جون مينارد كينز، الاقتصادية.
رغم صغر سنه، كان كينز البريطاني كاتبا ناجحا، ذاع صيته بعد نشر كتابه “التبعات الاقتصادية للسلام”، عام 1919، إلى جانب مقالات كتبها للجرائد والمجلات وحظيت بمتابعة كبيرة. نالت نظريته “رسالة في المال”، وكانت الأولى له، اهتمام صناع القرار. إلا أن عمله الأكبر والأبرز بلا جدل هو “النظرية العامة حول العمالة، والفائدة، والمال” نشر عام 1936، أي قبل عام من انتهاء الكساد العظيم، انتقد فيه قانون ساي، الذي يدعو إلى عدم تدخل الدولة في الاقتصاد.
تكمن قوة كينز في كونه مختلفا عمّن سبقوه، بوضعه لنظرية جديدة ومفاهيم جديدة ضرورية لتأسيس سياسات اقتصادية بديلة. واعتمدت أعماله، بعد الحرب العالمية الثانية، في إطار تأسيس دولة الرفاه الاجتماعي، واعتُبر لاحقا واضع النظرية الاقتصادية التي بنى عليها الليبراليون الاجتماعيون أفكارهم.
تعرض أفكاره، خاصة التيار الكينزي، الذي كان يدعو إلى الكلاسيكية الجديدة والذي سيطر على الولايات المتحدة لفترة طويلة، لفقدان أتباعه للكثير من تأثيرهم منذ بداية الثمانينات، مع بزوغ نجم المدرسة النقدية وإلغاء التنظيمات المالية والمدرسة الكلاسيكية الحديثة. إلا أن الركود الاقتصادي الذي بدأ عام 2008، ساهم في إحياء أفكاره لتعود وتحتل مركز الصدارة من جديد، خاصة الاهتمام بالنسخة الليبرالية الاجتماعية من المدرسة الكينزية الجديدة.
في كل أزمة واجهها العالم استحضر مينارد كينز، حدث ذلك عام 1919، وعام 1936، وحدث بعد الحرب العالمية الثانية، وفي عام 2008.
أزمة كورونا التي نعيشها اليوم، ليست أسوأ من الأزمة التي نجمت عن وباء الإنفلونزا الإسبانية، وليست أسوأ من الحرب العالمية، وهي أيضا ليست أسوأ من الكساد العظيم الذي امتد من عام 1929 إلى عام 1937.
ما يحتاجه العالم، هو عودة حقيقية إلى دور الدولة بوصفها صمام الأمان لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
لقد كشفت أزمة كورونا عن عيوب كبيرة في الدول، كما تدار اليوم، وإن كان هناك من درس يمكن استخلاصه من الأزمة الحالية، فهو ضرورة وضع حدّ لتغوّل الرأسمالية المتوحشة، وتأسيس رأسمالية الدولة.
ما يحتاجه العالم عام 2020 هو استحضار مينارد كينز، ثانية.
العرب