من المتفق عليه عموماً أن الحكم في الصين ليس ملائكياً في ما يخص حقوق الإنسان والحريات العامة وتمكين الصحافة من مقدار الحد الأدنى من الشفافية في نشر المعلومات السياسية والاقتصادية والصناعية، وبالتالي لا خلاف حول مسؤولية السلطات الصينية عن التكتم على فيروس كورونا المستجد عند اكتشافه، بدليل وفاة الطبيب الذي كان أول المحذرين من الفيروس وأخطاره. كذلك تتحمل بيجين مسؤولية إضافية في تأخير إخطار منظمة الصحة العالمية حول طرائق انتقال الفيروس، ربما لكي تمتلك الأجهزة الطبية الصينية الوقت الكافي لاستباق العالم في تخزين واستيراد الكميات الكافية من اللوازم الطبية الضرورية مثل الكمامات والقفازات وأجهزة التنفس.
كل هذه وسواها من الملابسات يمكن أن تدين الصين بتهمة التسبب في انتشار الفيروس على نطاق عالمي أوسع كانت نتيجته المزيد من الوفيات، ولكنها لا تشكل مبرراً مقنعاً للاتهامات التي يوجهها اليوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبعض كبار أفراد إدارته، والتي تتراوح بين الإيحاء بأن الصين تعمدت نشر الفيروس، أو أنه خرج من أحد مخابر مدينة ووهان الصينية نتيجة خطأ معملي «فظيع»، أو الذهاب إلى درجة قصوى والزعم بأن الفيروس صُنع بيد الإنسان في الصين وتمّ تعديل خارطته الجينية هناك.
ورغم عدم وجود أي أساس علمي لجميع هذه الشكوك طبقاً لآراء العلماء والأطباء على امتداد العالم، وفي داخل الولايات المتحدة أيضاً، فإن ترامب يواصل اجترارها خلال مؤتمراته الصحافية، بل ويزعم امتلاك تقارير استخباراتية تؤكدها، متجاهلاً أن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية أصدر بياناً واضحاً يقول فيه إن فيروس كورونا «ليس من صنع الإنسان ولم يُعدّل جينياً»، كما أن رئيس لجنة الاستخبارات في الكونغرس الأمريكي نفى علمه بأي تقارير تشير إلى هذه النتيجة. واللافت أن ترامب نفسه سارع منذ 24 كانون الثاني /يناير الماضي إلى امتداح جهود الصين في احتواء الفيروس، وأن «الولايات المتحدة تقدر كثيراً جهود الصينيين وشفافيتهم»، من دون أن يفوته توجيه شكر خاص للرئيس الصيني.
وكان ترامب قد بدأ ما يشبه حملة صليبية ضد بيجين باستخدام التعبير العنصري «الفيروس الصيني»، متناسياً أن جائحة «الإنفلونزا الإسبانية» التي قتلت أكثر من 50 مليون آدمي في سنة 1918 وما بعد، كان يتوجب حسب منطق ترامب أن تُسمى «أنفلونزا أمريكا» لأنها إنما بدأت في مقاطعة هاسكيل من أعمال ولاية كانزاس ونقلها الجنود الأمريكيون إلى مختلف أنحاء العالم. وها هو ينتهي اليوم إلى التلويح بإخضاع الصين لعقوبات اقتصادية على خلفية انتشار الفيروس وطلب تعويضات مالية للضحايا، ويقتفي أثره وزير خارجيته مايك بومبيو الذي انقلب بين ليلة وضحاها إلى خبير جوائح.
وليس خافياً بالطبع أن ترامب يسعى من وراء ذلك إلى استعادة بعض المبادرة إزاء الانتقادات الشديدة التي تعرضت لها إدارته بسبب تأخرها في تطبيق تدابير الحجر والتباعد الاجتماعي وتأمين المستلزمات الطبية، فلقد بات معروفاً الآن أنه لو طبّق ترامب تلك الإجراءات يوم 2 آذار /مارس بدل 16 منه، فإنه كان سيوفر حياة 90 في المئة من الوفيات الأمريكية. والرئيس المتعالم الذي فكر ذات مرّة بإمكانية احتساء المطهرات المنزلية للتخلص من فيروس كورونا، هو بالتأكيد آخر من يُصغى إليه في شؤون نشوء الفيروسات.
القدس العربي