كان أوسكار وايلد يقول “الجنتلمان لا يشتم أحداً بشكل غير مقصود”. وعلى هذه القاعدة، فإنّ العواصم لا تنتقد وضعاً خارج بلادها من دون أن يكون الانتقاد وسيلة لتحقيق هدف.
وهذا ما دارت حوله التكهنات والتصورات بعد ظهور انتقادات في موسكو لسلوك دمشق المدعومة منها عسكرياً ودبلوماسياً في حرب سوريا التي دخلت عامها العاشر. لم ترِد الانتقادات على لسان أي مسؤول في الكرملين أو وزارتَيْ الدفاع والخارجية، بل على ألسنة خبراء ودبلوماسيين سابقين على صلة ما بالسلطات الرسمية.
وكالعادة، بحسب تقليد الألعاب السلطوية، فإنّ الكرملين ينفي علاقاته بما قيل ويقال ويكرّر دعمه لحليفه السوري. وكالعادة أيضاً راحت عواصم المنطقة والعالم تتحدث عن اختلاف في المصالح والحسابات بين الحلفاء في المرحلة الحالية.
وكان السؤال البارز هو: هل دقت ساعة الصفقة الكبيرة بين روسيا وأميركا؟ حيث المقايضة بين شيء في سوريا وإلغاء العقوبات الاميركية والأوروبية عن روسيا بعدما ضمّت شبه جزيرة القرم، ودعمت متمردين في غرب أوكرانيا المُسمّى في موسكو “روسيا الجديدة”، وهل يكرّر الرئيس فلاديمير بوتين ما فعلته القيصرة كاترين الكبرى في القرن الثامن عشر، أم أن اللعبة لها بُعدٌ مختلف هو التمسّك بالمكاسب؟
موجز ما قيل في موسكو معبّر. السفير السابق ألكسندر اكسينيوك وهو حالياً مستشار “المجلس الروسي للشؤون الدولية” الذي يقدم استشارات لوزارة الخارجية، قال في مقال ظهر في موقع المجلس ومن ثم على موقع “نادي فالداي للحوار” الذي أسّسه بوتين “إن دمشق لا تبدو مهتمة بنهج يتمتّع بالمرونة وبُعد النظر، وهي مستمرة في الاعتماد على الحل العسكري”.
وكان رأيه أن النظام يتحدث بلغة “منفصلة عن الواقع ولا تتناسب مع قدراته وتوجهات حلفائه” لجهة الإصرار على استعادة كامل الأرض السورية. و”إذا استمر الأسد في رفض دستور جديد، فإنّ النظام يعرّض نفسه لخطر كبير”. في المقابل، يرى الدبلوماسي السابق ألكسندر شوفيلين، مدير “مركز أوروبا والشرق الأوسط” الذي تموّله وزارة الخارجية أن “على الكرملين التخلّص من الصداع السوري” وأن “المشكلة تتعلّق بشخص واحد هو الأسد وحاشيته”.
في الجيوبوليتيك الروسي، ثوابت إلى جانب متغيرات، مهما يكن النظام في الكرملين. من إمبراطورية آل رومانوف إلى جمهورية بوتين، مروراً بالاتحاد السوفياتي. فالتدخّل العسكري الروسي في حرب سوريا خريف 2015 سبقه تدخّل قيصري عام 1772 ومن ثم تدخّل سوفياتي لحماية مصر بالطيارين بين عامَيْ 1968و1970.
وروى عام 1772، سيمون سيباغ مونتفيوري في كتاب “آل رومانوف 1613-1918″، أن الأسطول الروسي قصف بيروت ومن ثم احتلتها القوات لستة أشهر بقرار من كاترين الكبرى نفّذه الكونت ألكسي أورلوف، شقيق عشيقها غريغوري.
كانت القيصرة في حرب مع السلطنة العثمانية، فدعمت محمد علي باشا وضاهر العمر في مصر وسوريا مقابل حيازة القدس وتحقيق مطلب الكنيسة الأرثوذكسية التي ترى روسيا بعد سقوط القسطنطينية “القدس الجديدة لا فقط روما الثالثة”.
وحين قدمت السلطنة عام 1774 تنازلات إلى روسيا في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم التي صارت قاعدة لأسطول البحر الأسود، تخلّت روسيا عن حليفَيْها. أما في مصر، فإن الرئيس السادات هو الذي طرد الخبراء الروس.
من الصعب، وربما من الوهم، تصوّر روسيا بقيادة بوتين تتخلّى عن دورها في سوريا الذي أعادها قوة عالمية وجعلها قوة شرق أوسطية، كما عن قواعدها البحرية والجوية على شواطئ “المياه الدافئة”. لكن من الصعب أيضاً تجاهل الأسباب التي قادت إلى اختلاف الحسابات بين موسكو وكل من دمشق وطهران حول التسوية السياسية، كما حول الدور التركي. ذلك أن روسيا تعترف بلسان وزير الخارجية سيرغي لافروف أنها “ليست قادرة وحدها على الدفع نحو التسوية السياسية”. وهي تعرف أن إعادة الإعمار في سوريا التي تبلغ كلفتها 400 مليار دولار بحسب الأمم المتحدة، تبقى مهمة مستحيلة من دون أميركا وأوروبا ودول الخليج. وهذه الدول تشترط التسوية السياسية الحقيقية للمساهمة في إعادة الإعمار.
والمعادلة- العقدة بكلام آخر، محدّدة جداً. كل ما ربحته روسيا عسكرياً مرشح للخسارة من دون الوصول إلى تسوية سياسية. وأي تسوية سياسية هي خسارة للنظام في نظر دمشق ومعها طهران. وليس أمام روسيا ولو اصطدمت بحلفائها، سوى العمل على فكّ العقدة. والسؤال هو: كيف ومتى؟ والجواب لا يتوقف على حماة النظام، بل أيضاً على الغرب الأميركي والأوروبي.
رفيق خوري
اندبندت عربي