على موقع صحيفة “المدينة” السعودية، أبدت كاتبة محلية تحفّظها على منهج الدراسات الاجتماعية في المرحلة المتوسطة، فقط لأن مُعدّيها قد استخدموا لفظ “الحكم العثماني” بدلا من استخدامهم “الاحتلال العثماني”، وذلك على الرغم من أنها دولة دخلت البلاد العربية بجيوشها، ولم تعلِ راية الإسلام بل حاربته في لغته، بفرض اللغة التركية على الولايات العربية المحتلة، هكذا رأت كاتبة المقال.
تهمة تتريك الدولة العثمانية للدول العربية التي دخلت تحت رايتها، تطل برأسها كثيرًا منذ الحملة الشرسة التي أطلقتها بعض الدول العربية التي ناصبت تركيا العداء إثر موقفها من الحصار على قطر ومقتل خاشقجي والصراع في ليبيا، إضافة لتحركاتها من أجل الحفاظ على مصالحها الحيوية في المتوسط، وحفظ أمنها القومي.
ولأن استبدال الهوية الثقافية لأي مجتمع بأخرى لا تتم إلا عن طريق اللغة، فوجب التركيز عليها في الرد على اتهام الدولة العثمانية بعثمنة أو تتريك الدول العربية التي دخلت تحت نفوذها.
ربما لو نظرنا إلى هيمنة اللغة الفرنسية في دولة كالمغرب أو الجزائر، سندرك بوضوح أن الاحتلال العسكري قد انتهى، لكن الاحتلال اللغوي لا يزال مكبلًا ثقافة تلك البلاد التي تقاتل من أجل التعريب، كل هذا القدر من التأثير ناتج عن عقود معدودة من الاحتلال، ولكن ماذا عن الحكم العثماني للبلاد العربية أو “الاحتلال” كما يحلو لخصوم تركيا أن يسموه؟ كيف أثر حكم عثماني للبلاد العربية دام خمسة قرون على اللغة العربية؟
لو كانت الدولة العثمانية عملت على تتريك المجتمعات العربية وفرضت اللغة التركية عليها فكيف لم ينقل لنا التاريخ أن هذه الشعوب كانت تتكلم اللغة العثمانية؟ لكنه لم يحدث على الإطلاق، فلم يزد التأثير العثماني على لغة البلاد العربية على بعض المفردات التي تتداولها الشعوب، كشأن أي احتكاك ثقافي بين أصحاب اللغات المختلفة.
ومن يتحدث عن تتريك العثمانيين للبلاد العربية فهو حتما يجهل طبيعة الحكم العثماني، فكما يقول الدكتور أحمد طربين الذي كان يعد أبرز قامات قسم التاريخ بجامعة دمشق في كتابه “تاريخ المشرق العربي المعاصر”، إن الحكم العثماني قام على مبدأ الاستعانة بعناصر الحكم القديمة في البلاد المفتوحة، والاكتفاء بمظاهر السيادة، كوجود حاميات عثمانية، وتعيين كبار القضاة والموظفين من العثمانيين، وتركها تواصل السير في الطريق التي كانت تسير فيها، وضرب مثالا لذلك بمصر وسوريا، حيث لم يتدخل الحاكم العثماني بحياة الناس.
فكيف يقال إن الدولة العثمانية عملت على تتريك الدول العربية؟ في حقيقة الأمر لا تستطيع ذلك إلا إذا فرضت لغتها في الدوائر التعليمية ومنعت استخدام اللغة الأصلية، أو بإحداث تغيير ديموغرافي لجعْل السكان الأصليين مجرد أقليات يسهل فرض لغتها العثمانية عليهم، ولم يحدث هذا أو ذاك. كان التعامل باللغة العثمانية في نطاق الإدارة والحياة السياسية بين السلطان العثماني والولاة والموظفين، أما المعارف والعلوم والثقافة، فقد ظلت كما هي باللغة العربية.
في كتابه “العثمانيون في التاريخ والحضارة” يقول المؤرخ المصري البروفيسور المتخصص في التاريخ العثماني محمد حرب: “إذا كان عثمان مؤسس الدولة العثمانية قد تولى (عام) 1281 وحكم 37 سنة وأحاط نفسه بعلماء ومشايخ قبيلته الذين كانوا يعنون بحفظ القرآن الكريم وتحفيظه، فإننا نعلم متى بدأ العثمانيون الاهتمام باللغة العربية”.
فهو يشير إلى اهتمام العثمانيين منذ تأسيس دولتهم باللغة العربية بناء على أصل انتمائهم للإسلام ولغته العربية التي هي لغة القرآن، وكان عهد أورخان بن عثمان قد شهد خروج التعليم من المسجد وفتحوا في إزمد أول مدرسة عثمانية، وكانت تدرس فيها وفي المدارس المتعاقبة بعدها العديد من الكتب باللغة العربية. كما درست اللغة العربية كمادة منفصلة أيضًا، والعمدة في مناهجها الدراسية ألفية بن مالك والعوامل للجرجاني وقطر الندى لابن هشام، وأساس التصريف للفناري، وغيرها من الكتب العربية.
ويقول الدكتور حرب في نفس الكتاب: “هناك علامة بارزة على الاهتمام السامي باللغة العربية في الدولة العثمانية، وهي أن كل أمير وسلطان وخليفة عثماني، كان يجيد اللغة العربية، تعلم ودرس بها، واتخذها وسيلة لتعلم الدراسات الإسلامية المنصوص عليها في نظام تربية الأمراء في القصر العثماني”.
في أرشيف طوب قابو بإسطنبول، هناك وثيقة عثمانية مؤرخة عام 1565، وتحمل رقم (E-2803)، تتضمن قائمة بالكتب الموزعة على المدرسين بالمدارس العثمانية، فمنها مثلا: الكشاف للزمخشري، وتفسير القاضي البيضاوي، وتفسير القرطبي، وتفسير الكاشاني، والهداية للميرغناني، وشرح النووي على صحيح مسلم، وكلها باللغة العربية.
ويوضح المؤرخ التركي الشهير عثمان أركين في كتابه “تاريخ التربية التركية”، نطاق التعامل باللغة التركية في الدول العربية، ويوثق شهادة تاريخية بعدم اتباع العثمانيين سياسة التتريك، واحتفاظ العرب بلغتهم العربية في ثقافتهم ومناحي حياتهم في العهد العثماني، فيقول: “العثمانيون مع استخدامهم للغتهم التركية في الأعمال الحكومية، إلا أنهم لم يدرسوا هذه اللغة للشعب في أي مؤسسة من المؤسسات، فاللغة السائدة والمسيطرة في المدارس والجامعات عند العثمانيين كانت العربية”.
وفي الأرشيف العثماني العديد من الوقفيات المكتوبة باللغة العربية، مثل وقفية السلطان مراد الثاني لإنشاء دار الحديث أدرنة، وتحمل وثيقتها رقم 7081 في أرشيف طوب قابو، ووقفية الشيخ المولى فناري الخاصة بمدرسته في القدس، بأرشيف رئاسة الوزراء في إسطنبول قسم الوقفيات، رقم (6/162).
إذن، فالحكم العثماني قد حافظ على بقاء اللغة العربية في ثقافة شعوب تلك الدول، ذلك لأن العثمانيين كانوا يجلون تلك اللغة باعتبارها لغة القرآن، فنستطيع القول إنهم تأثروا باللغة العربية أكثر مما تأثر العرب بالتركية، فأسماء السلاطين كانت معظمها عربية، وأختامهم كانت باللغة العربية، وحتى أسماء السفن العثمانية كانت تحمل أسماء عربية مثل محمودية ومجيدية وسليمية.
فنسبة المفردات العربية في اللسان العثماني تربو على 40% من مجموع مفردات هذه اللغة، وهي دلالة قوية على تأثر اللغة العثمانية بالعربية وليس العكس، وفي ذلك كفاية في القول إن العثمانيين لم يحاولوا العبث في اللغة العربية أو يعملوا على تتريك بلادها.
وأصل اللغة التركية العثمانية كانت تكتب بحروف عربية، ولم يتم استبدال الأبجدية التركية العثمانية عربية الحرف بالأبجدية اللاتينية إلا في عام 1927.
إحسان الفقيه
الأناضول