أثارت مطالبات عدد من اللبنانيين بعودة الاحتلال الفرنسي خلال زيارة ماكرون جدلا واسعا؛ بين مؤيد ومبرر ورافض ومندد، وبعد توقيع أكثر من 30 ألف لبناني عريضة يطالبون فيها بعودة الفرنسيين، اتضح أن هناك مزاجا شعبيا ما، يتماهى مع طروحات كهذه، داعية لحكم خارجي للتخلص من فساد الداخلي، فمن لا يروق له الفرنسي يتحدث عن التركي، وآخر ينتظر مزيدا من الالتصاق بالإيراني، البعض يرى هذه المطالبات غير واقعية، وهي مجرد تنفيس عن الغضب ونكاية بالطبقة السياسية الفاسدة، وتعبير عن الاحتجاج الشديد ضدها، لكن الأمر لا يخلو أيضا من علامات الانقسام الشديد في انتماءات اللبنانيين، وتطلعاتهم لشكل الدولة وهويتها، وهو مسبب حاسم أيضا لما يعاني منه لبنان من أزمات سياسية ونزاع لا يكاد ينتهي منذ الإعلان عن «لبنان الكبير» في هذه الدولة الصغيرة .
فالدعوات للعودة لحضن «الأم الحنون» غالبا ما تنطلق من الوسط المسيحي، وتلك الباحثة عن ظل «الخلافة العثمانية» والبلاط السلطاني، عادة ما تجد رواجا في البيت السني، ولعل من اللافت تاريخيا، أن النفوذ الفرنسي تعمق في أوساط اللبنانيين المسيحيين خلال الحقبة العثمانية نفسها، عندما اضطرت الدولة العثمانية للإذعان لمعاهدات الامتيازات الأجنبية، ليتأسس الوجود الفرنسي بقوانين تمنح المسيحيين وضعا خاصا، وصل لإخراجهم من سلطة القضاء العثماني، خاصة في القرن الاخير بعد مجازر 1860 الطائفية في لبنان ودمشق، عندما قبل العثمانيون بنزول قوات فرنسية في بيروت وصل بعضهم لدمشق للإشراف بانفسهم على التحقيقات بشأن ما تعرض له المسيحيون آنذاك. أما بالنسبة لشيعة لبنان، فإنهم بلا شك يفضلون الإيراني على التركي، والحزب الممثل الأول لجنوب لبنان، «حزب الله» يحصد في كل انتخابات أعلى الأصوات في الكتلة الشيعية، بدون أن يشكل موضوع ارتباطه العلني بولاية الفقيه الايراني أي عائق أمام مكانته الداخلية .
الماضي لا يزال يلقي ظلاله الثقيلة على لبنان، وسائر البلدان المنقسمة في المشرق العربي من العراق إلى سوريا
وهكذا فإن النفوذ والتدخل الخارجي له موطئ قدم في لبنان لعوامل داخلية محلية، وأدت هذه الانقسامات الحادة في الهوية والمرجعية التاريخية، ليس فقط إلى خلافات حول توحيد منهاج التاريخ في المدارس اللبنانية، بل إلى استدعاء التاريخ مع كل أزمة تشهدها البلاد، أي أن الماضي لا يزال يلقي ظلاله الثقيلة على حاضر هذا البلد، وسائر البلدان المنقسمة في المشرق العربي من العراق لسوريا. كما أن هذا المزاج يعني أن الكثيرين في المشرق العربي فقدوا الأمل في حل ينبعث من الداخل، ولا يرون أي أفق إلا بالهجرة للخارج، أو بعودة حكم الخارج. وحتى خلال زيارة ماكرون، كان الكثيرون من أهالي الجميزة يهتفون (فيفا فرانس) بينما ظهرت أصوات أخرى تهتف بإطلاق سراح المناضل اليساري المعتقل في سجون فرنسا والمحكوم بالحبس المؤبد جورج عبد الله، اللبناني عضو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهذه الأصوات على قلتها وسط الحشود، إلا أنها عبّرت عن هذا الانقسام، من خلال صوت شريحة لبنانية أخرى لا يستهويها كثيرا الدور الفرنسي. والأمر نفسه يسري على الموقف من التفجير الأخير في مرفأ بيروت، فأنصار تيار عون وحزب الله يروجون في وسائل الإعلام المقربة منهم عن دور إسرائيلي في العملية، في إطار حشر أدبيات «محور الممانعة» في كل حادثة، واستحضار التخندق السياسي لحلفائهم، وتحميل إسرائيل، كل ما يحدث في لبنان، وبالمقابل فإن خصوم حزب الله يتحدثون أيضا عن رواية «مخزن سلاح حزب الله»، وبالتالي استهدافه من إسرائيل، لكن الغرض من هذه الرواية المقابلة هو ترسيخ فكرة، أن حزب الله وسلاحه هما من دمّر بيروت.
كل طرف إذن يريد رؤية الحدث وقراءته بعيونه ونظاراته، بدون الالتفات للحقائق الموضوعية، التي تشير في أغلبها إلى أن الانفجار لم يحصل نتيجة عمل إسرائيلي، والمخزن لم يكن يحوي سلاحا لحزب الله، بل مادة نترات الأمونيوم شديدة الانفجار، وهي حمولة سفينة مخزونة منذ عام 2014، حسب الوثائق والمخاطبات الرسمية التي نشرت؛ وهذه المدة الزمنية الممتدة منذ 2014 طويلة بما يكفي لتنفي وجود نية لاستخدامها، أو نقلها لمخازن حزب الله في الجنوب، أو البقاع، كما أن طريق إمدادات حزب الله من الأسلحة الثقيلة والحمولات الكبيرة كهذه هو من حدود سوريا وليس مرفأ بيروت، وما هو متداول من وجود عنابر مخصصة وشحنات تصل لحزب الله عن طريق الميناء، تتعلق بأجهزة ومعدات ذات طبيعة تقنية لا تتطلب سعة نقل كبيرة، كتلك المتوفرة على طريق سوريا.
وتشير أغلب المعلومات إلى أن هناك بالفعل كمية من المفرقعات أيضا موجودة في تلك المخازن بجانب أطنان نترات الأمونيوم، وهو ما يظهر بوضوح في الصور الأولى لعملية احتراق المخازن، إذ ظهر بوضوع وجود اشتعال لمفرقعات إلى جانب دخان يصدر عادة عند احتراق مادة النترات، ويبدو أن سبب الاشتعال يعود لعمليات لحيم لبوابات العنابر، جرت قبل ساعات من الانفجار، ما أدى ربما لاشتعال ناتج عن شرارة أدوات اللحيم.
يبقى الأمر الذي يتفق عليه الجميع هو إهمال وفساد الإدارة الحكومية التي استهترت بإبقاء مادة خطرة لسنوات في مخازن الميناء، فهذه المادة تستخدمها الجماعات المسلحة في تفخيخ السيارات، وهي تستعمل كسماد عادة، ولأنها مزدوجة الاستخدام، تتمكن الجماعات المسلحة من شرائها وتفخيخ قنابلها بها، وهذا ما كان يحصل كثيرا لدى تنظيم «القاعدة» في العراق، وكنت قد شاهدت إحدى هذه المفخخات التي استهدفت فندق شيراتون بغداد عام 2004 أثناء معركة الفلوجة، واستخدمت في هذا الانفجار شاحنة خلاط إسمنت، ما أدى إلى نشوء عصف قوي هز أركان الفندق الذي نقيم فيه وحطم زجاج النوافذ تماما، كما حصل في انفجار بيروت، وكذلك تشير المعلومات إلى أن عملية تفجير السفارة الأمريكية ببيروت عام 1983 الذي نفذته جماعة شيعية مرتبطة بإيران بقيادة عماد مغنية، كان باستخدام خليط من عدة مواد منها هذه المادة شديدة الانفجار.
وائل عصام
القدس العربي