لم يكن ينقص الحكومة اللبنانية، وهي تبدأ مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي حول المساعدة التي طلبتها منه لتنفيذ برنامجها الإصلاحي، على أمل أن يدعمه بقروض تبلغ قيمتها حوالى 10 مليارات دولار على ثلاث سنوات، هي بحاجة ماسة إليها لإنجاح خطتها الإنقاذية، سوى أن تظهر بمظهر الخاضع لنفوذ “حزب الله” ولما تعتقده دول غربية “إملاءات” الحزب.
فالأيام الماضية شهدت إطلاق الأمين العام للحزب حسن نصر الله مجموعة من المواقف والنصائح للحكومة التي بادرت إلى الانسجام معها فوراً، في شكل كرّس الانطباع الذي سعى الحزب إلى تبديده مرات عدّة بأن حكومة الرئيس حسان دياب هي حكومة “حزب الله”.
نصر الله اعتبر في كلمة له في الرابع من مايو (أيار) بعدما حظّرت وزارة الداخلية الألمانية نشاط حزبه على أراضيها وداهمت مؤسسات تابعة له، أن “على الحكومة اللبنانية وفي مقدمها وزارة الخارجية حماية مواطنيها في ألمانيا وفي غير ألمانيا، ومطالَبة بموقف، بإجراءات لأن الاعتداء الذي جرى غير مقبول ولا يجوز أن يُسمح بتكراره”.
لم يكذّب وزير الخارجية ناصيف حتي خبراً، فاستدعى السفير الألماني في بيروت جورج بيرغلين والتقاه في اليوم التالي “لاستيضاحه عن القرار الذي اتّخذه البرلمان الألماني بشأن حزب الله”، ووزّع خبراً عن الاجتماع وهدفه، أكد فيه الوزير أن “موقف لبنان المبدئي أن حزب الله مكون سياسي أساسي في البلاد ويمثّل فئة واسعة من الشعب اللبناني وهو جزء من البرلمان”.
المصادفة غير المريحة: خطوة حتي ومقال فيلتمان
ومع أن الصيغة التي سرّبها حتي عن الاجتماع توحي بأنه أقدم على خطوة شكلية ورفعاً للعتب، وأنه ردّد العبارة التي سبق للحكومات السابقة أن اعتمدتها تعليقاً على العقوبات الأميركية والعربية ضد الحزب، إذ هو يجلس على طاولة مجلس الوزراء مع وزيرين سمّاهما الحزب، فإنّ خطوته لم تمرّ من دون انتقادات في بعض وسائل الإعلام ولدى بعض القوى السياسية.
لم تكن المصادفة مريحة للحكومة والحكم، مع انتشار مقال معهد “بروكينغز” للمساعد السابق لوزير الخارجية الأميركية السفير جيفري فيلتمان الذي خدم في لبنان ويعرفه جيداً، إذ تناول فيه الخطة الإصلاحية للحكومة، قائلاً إن “برامج الدعم السابقة للبنان كانت تُرسم بهدف تقوية مؤسسات الدولة الشرعية قياساً إلى اللاعبين غير الحكوميين، خصوصاً حزب الله، وبما أن الحكومة الحالية تستند حصرياً إلى دعم الحزب وحلفائه في البرلمان، فإنّ هذا التبرير لم يعد صالحاً”. أضاف “التحدي بالنسبة إلى حكومة دياب يكمن في إقناع المانحين أن خطتها لن تعزّز هيمنة الحزب أكثر على دولة يزداد تفكّكها وفقدانها لدورها”، وعلى الرغم من أن فيلتمان لم يعد في الخارجية، فإنه يعكس وجهة نظر فيها.
نفي نصر الله المتكرر لتهمة السيطرة
لكن نصر الله حرص على نفي تهم موجّهة إلى حزبه خلال الأسابيع الماضية بالقول “نحن لا نريد لا تدمير ولا إسقاط ولا سيطرة ولا سطو ولا انتقام ولا أي شيء من القطاع المصرفي أبداً”، بعدما كان في خطب سابقة، هاجم المصارف وعاب عليها عدم المساهمة في سدّ الفجوة المالية التي يعانيها لبنان، معتبراً أنها حقّقت أرباحاً كثيرة في السنوات الماضية، وهو بذلك سعى إلى تبديد الانطباع بأن هناك توجّهاً لتدخل الدولة في تحديد هوية القطاع المصرفي مثلما هو حاصل في دول اشتراكية أو تتبع نظام اقتصاد الدولة الذي حذّر منه غير فريق سياسي، في وقت يتوجه لبنان نحو صندوق النقد ودول غربية تتبع النظام الاقتصادي الحر، وهو أشار إلى أن الحزب تفهّم تطبيق المصارف للعقوبات الأميركية عليه لأنها لا تستطيع مواجهة ذلك.
وجاء ذلك ليكشف تناقض مواقفه لأنه كان شنّ في السنوات الماضية حملة على المصارف متّهماً إياها بالانصياع للجانب الأميركي، وفي الشهرين الماضيين، حمّلها قسطاً كبيراً من أسباب الأزمة الاقتصادية المالية، معتبراً أنها حققت أرباحاً طائلة في المرحلة الماضية. وعبّر هذا التناقض عن الارتباك الذي يعاني منه الحزب في التعاطي مع عمق الأزمة الاقتصادية، بصفته الحزب الأقوى داخل الحكومة والأكثر تأثيراً في قراراتها بعلاقته مع حلفائه الذين تتشكّل منهم، إذ إنّه اكتشف فشله وهؤلاء الحلفاء في اتّباع هذا المنحى المعادي للقطاع المصرفي، وترجمته بتغيير حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الشهر الماضي، لأن الأمر تسبّب بخلافات داخل الائتلاف الحكومي من جهة، إذ إنّ حليفه رئيس البرلمان نبيه بري رفض ذلك وكان موقفه أقرب إلى موقف المعارضة، ولأنه منحى أدى إلى ارتفاع جنوني في سعر صرف الدولار الأميركي من جهة ثانية، الأمر الذي دفع نصر الله إلى تخصيص جزء من خطابه لنفي التهم الموجهة إلى حزبه بأن صيارفة تابعين له يتلاعبون برفع سعر الدولار لأنهم يعملون على تأمين العملة الصعبة للحزب عن طريق شرائها من السوق فيعزّزون المضاربة، لتصديرها إلى إيران وسوريا (لمواجهة العقوبات عليهما)، وهو قام أيضاً بوعظ التجار لعدم رفع أسعار السلع الاستهلاكية والغذائية الناجم عن البلبلة في السوق النقدية، لأن ذلك يرتّب مزيداً من النقمة ضده في الوسط الشعبي ومن الاتهام له بأن الحكومة تخضع لتوجهاته، على الرغم من أنه قدم اقتراحات إلى وزارة الاقتصاد حول زيادة عدد مراقبيها و”مواجهة الاحتكار، ومداهمة المخازن”.
ولذلك جاء نفيه أن يكون الهدف من وراء طرح إقالة حاكم المصرف المركزي (تصدر الضغط لتغييره حليفه الرئيس عون ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل ومعهما الرئيس دياب) هو السيطرة على الحاكمية، من دون أن ينفي أنه كانت هناك نية للإقالة، كما أن نصر الله استرسل في حديثه عن الخطة الاقتصادية التي وضعتها الحكومة والتي كان قياديون في حزبه امتدحوا إنجازها، مقابل انتقادات المعارضة لها، فقال إنها “غير منزلة وقابلة للتعديل”، بعدما قامت الضجة ضدها لشمولها إجراءات، منها الاقتطاع من أموال الذين تفوق ودائعهم نصف مليون دولار مِمَّن حققوا أرباحاً عالية من فوائد الإيداعات في المصارف، وبين هؤلاء كثر من المغتربين الشيعة الذين بنوا ثرواتهم طيلة عقود من العمل في أفريقيا والخليج وأودعوها في لبنان.
فشل في تصفية الحسابات، فانفتاح
وأرخت صراعات الأسابيع الماضية حول المواقع في السلطة وجنوح فريق الرئيس عون نحو تغييرات في مواقع إدارية ومالية في الدولة مثل حاكمية مصرف لبنان والتعيينات المالية وغيرها، بهدف اقتلاع محسوبين على المعارضين، لا سيما لزعيم “تيار المستقبل” رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، بالتزامن مع حملة تحمّله مع حليفه رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط مسؤولية تدهور الاقتصاد، بظلها على أهلية الحكومة لطلب مساعدة المجتمع الدولي، فالسفراء الغربيون في بيروت راقبوا عن كثب اتجاه التركيبة الحاكمة التي يسيطر عليها “حزب الله” نحو توجيه شعار مكافحة الفساد واستعادة “الأموال المنهوبة” إلى الفريق المعارض، مع تهديدات بملاحقة بعض الرموز قضائياً في ظل تدخلات الفريق الحاكم في القضاء، ما أطلق اشتباكاً سياسياً حاداً وتراشقاً إعلامياً عنيفاً، هاجم فيه الحريري الحكومة والعهد الرئاسي للمرة الأولى (كان يكتفي في السابق بانتقاد باسيل)، وكذلك فعل جنبلاط الذي لمّح في انتقاداته إلى “حزب الله” ودعمه فريق عون، على الرغم من المهادنة معه.
وترافق ذلك مع توتّر في الشارع على إثر عودة الاحتجاجات بسبب تردّي الوضع المعيشي، ما دفع السفراء إلى نصح كبار المسؤولين بالاستعاضة عن تصفية الحسابات بتأمين توافق وطني على الخطة الإصلاحية المالية الاقتصادية، كي يستقبلها المجتمع الدولي وصندوق النقد بجدية، تشجع على النظر في مساعدة البلد.
وتفيد التقديرات بأن تشدّد المعارضين في مواجهة الحملات عليهم وإفشالهم بالتنسيق مع بري ووزيريه، ووزيري رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، الخطوات التي كان عون ودياب ينويان اتّخاذها من خلال الحكومة، في إطار تصفية الحسابات، دفع “حزب الله” إلى بذل جهد مع عون لتهدئة الصراع السياسي، ففتح الأخير بعض خطوط التواصل مع بعض المعارضين ومنهم جنبلاط، وسط معطيات حول إمكان القيام بخطوة مماثلة مع الحريري. وجاءت دعوة الرئيس اللبناني إلى اجتماع رؤساء الكتل النيابية الأربعاء، السادس من مايو، في القصر الرئاسي، من أجل إطلاعهم على تفاصيل الخطة، (كان اقتراح بعض السفراء أن يتولّى بري عقد الاجتماع (إلّا أنّ عون انزعج وسارع إلى الدعوة) بهدف توجيه رسالة إلى المجتمع الدولي بأن الإجماع الوطني على الخطة قد تحقّق.
ما سبق من أحداث، حمل نصر الله على حديث اتّسم بالهدوء وقال إن “هذه الخطة أيضاً بحاجة إلى تحصين وطني ويمكن الاستناد إليها لأي نقاش قد يحصل مع أي جهة خارجية تريد أن تقدّم مساعدة”، وحضّ سائر الفرقاء على تلبية دعوة عون، مكرّراً موافقة حزبه على طلب مساعدة صندوق النقد الدولي لكن مع “الحذر” وضرورة مناقشة ما يعرضه في الحكومة، وتمنّى إعطاء فرصة لهذه الأخيرة.
اجتماع بعبدا الناقص
لكن المعارضين، سواء من خارج الحكومة أو من داخلها، اعتبروا أن فريق الرئاسة والحزب والحكومة يريد تغطيتهم للخطة التي عارضوا نواحي كثيرة فيها، معتبرين أنها قاصرة عن معالجة الأزمة وأرقامها افتراضية وأنها تغيّر هوية نظام لبنان الاقتصادي وحتى السياسي. وتعاطى المعارضون مع الدعوة على أنها محاولة للحصول على صكّ اعتراف بتوجهات الفريق الحاكم أمام المجتمع الدولي، بعد الفشل في تحقيق نتائج من هجومه لتغيير موازين القوى الداخلية، ليعود بعد الاجتماع فيستأنف هذا الهجوم، ولذلك تغيّب عن الاجتماع الحريري والرئيس السابق نجيب ميقاتي وجنبلاط وفرنجية ورئيس “حزب الكتائب” سامي الجميل، بينما حضر رئيس “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع، أي أن تسعة فرقاء شاركوا من أصل 14، ولم يوافق جعجع، الذي قال إنه حضر لأنّ كل معارض يعارض على طريقته، على البيان الختامي الذي نصّ على ترحيب المجتمعين بالخطة الاقتصادية، فرؤساء الكتل الآخرين الحاضرين هم من فريق الموالاة وحلفاء “حزب الله”، وطرح جعجع مجموعة من الإجراءات المطلوبة قبل الحديث في الخطة، بدءًا من تنفيذ إجراءات في متناول اليد من دون مساعدة مالية خارجية، لا سيما معالجة ملف الكهرباء مروراً بإقفال المعابر غير الشرعية ووقف التهرّب الجمركي من المعابر الشرعية، وفي مسائل تمّس دور “حزب الله” و”التيار الحر”.
خطاب عون ودياب أكثر هدوءاً
وفي خطاب الرئيس عون مفتتحاً الاجتماع، بدا أنه يعتمد لغة هادئة بدوره، إذ قال “الخروج من النفق المظلم مسؤولية الجميع ونحن أحوج ما نكون لتجاوز تصفية الحسابات والرهانات السياسية فنتّحد للتغلّب على أزمتنا”. وإذ دعا إلى الحوار مع القطاع الخاص، لا سيما القطاع المصرفي، اعتبر أن “خطة التعافي المالي إنقاذيّة واكبها طلب مؤازرة صندوق النقد الدولي الممرّ الإلزامي إن أحسنّا التفاوض والتزمنا المسار الإصلاحي من دون إملاء أو وصاية أو ولاية”، وأكد أن الخطة لم تُدرس بفكر سياسي بل اقتصادي وحضّ على البدء بإجراءات تنفيذية فورية.
أما دياب، فقال إن الخطة “ليست ملكاً لحكومة أو حكم، إنما هي برنامج عمل لعبور لبنان مرحلة صعبة، ولا مجال للمزايدات ولا مكان لتصفية الحسابات ولا يُفترض فتح الدفاتر القديمة في السياسة”، وهو كلام مخالف لما دأب على تكراره عن “الإرث الثقيل” وعن عراقيل توضع في وجه الحكومة مِمَّن اتّهمهم بالتسبب بما وصلت إليه البلاد.
وليد شقير
اندبندت عربي