في الرابع عشر من مايو (أيار) عام 1991، انهار “حلف وارسو”، الذي أرعب بعدته وعديده القارة الأوروبية طيلة 36 عاماً، في أعقاب إعلان أعلى هيئة عسكرية سوفياتية تخليها عن قيادة جيوش دول أوروبا الشرقية السابحة في فلك موسكو. وقد شكّل ذلك الحدث آنذاك، أحدث علامات فقدان سيطرة الاتحاد السوفياتي السابق على حلفائه الأوروبيين عقب انتهاء الحرب الباردة مع دول المعسكر الغربي.
تشكَّل “حلف وارسو” عام 1955 كرد فعل على قرار الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين إدراج ألمانيا الغربية ضمن منظومة “حلف شمال الأطلسي”، الذي يُعرف اختصاراً باسم “ناتو”. تم تشكيل الناتو عام 1949 بوصفه تحالفاً عسكرياً بين الولايات المتحدة وكندا والعديد من الدول الأوروبية لمواجهة التهديد التوسعي البري الداهم للسوفيات على أبواب أوروبا الغربية. ففي عام 1954، صوّت الناتو لصالح قبول ألمانيا الغربية، التي سُمح بإعادة تسليحها، عضواً في الحلف، ما حدا بموسكو إلى الردّ عن طريق تشكيل “حلف وارسو”، الذي ضمّ في عضويته التأسيسية: الاتحاد السوفياتي وألمانيا الشرقية وبولندا والمجر ورومانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا، وألبانيا التي انسحبت لاحقاً عام 1968. وفي عام 1963، سعت منغوليا للانضمام إلى حلف وارسو، لكنها حصلت على وضعية “عضو مراقب” إثر ضغوط سياسية مارستها الصين التي أرادت إبقاء جارتها الشمالية في وضع حياديّ. لكن السوفيات ما لبثوا أن نشروا قواتهم في وقت لاحق عام 1966 في هذه الدولة الآسيوية.
وعلى الرغم من أن السوفيات ما فتئوا آنذاك يرددون أن “حلف وارسو” هو تحالف دفاعي محض، فإن أهدافه الخفيّة بالحفاظ على ستار من الهيمنة الشيوعية الحديدية في أوروبا الشرقية، سرعان ما انكشفت: ففي المجر عام 1956، وكذلك في تشيكوسلوفاكيا عام 1968، تذرّع السوفيات بميثاق الحلف لإضفاء شرعية على تدخلهم عسكرياً للقضاء على الانتفاضات الشعبية المعادية لنظم الحكم الشيوعية. ونتج عن القمع المسلح لثورة المجر وفاة زهاء 2500 مجريّ. وفي حين دانت واشنطن التدخل العسكري السوفياتي هناك، إلا أنها اكتفت باحتضان عشرات آلاف اللاجئين المجريين على أراضيها. ويقول أندرو غلاس، المحرر المتخصص لدى مجلة “بوليتيكو”، إن العمل المشترك المتعدّد الجنسيات الوحيد لقوات حلف وارسو كان غزو تشيكوسلوفاكيا في أغسطس (آب) 1968، إذ انضمّت آنذاك جميع الدول المنضوية تحت راية الحلف، باستثناء رومانيا، إلى الغزو.
مع حلول أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بدأت الحركات المناهضة للسوفيات والمعادية للشيوعية في جميع أنحاء أوروبا الشرقية بإحداث شروخ عميقة في جسد الحلف. وما إن حلَّ عام 1990، حتى تخلّت ألمانيا الشرقية عن اتفاقية تأسيسه استعدادا للوحدة مع ألمانيا الغربية، في ما أعرب القادة السياسيون البولنديون والتشيك عن رغبتهم في الانسحاب، تلتهم تباعاً الدول الأخرى المنضوية. وبانهيار الاتحاد السوفياتى نفسه في نهاية عام 1991، ومع تفكّك الكتلة الشرقية الاشتراكية، أُعلنت وفاة “حلف وارسو”، لا بل انضمّت بعض دوله إلى “حلف شمال الأطلسي”.
لا تختلف نهاية “حلف وارسو” عن نهايات أحلاف عسكرية أخرى ظهرت خلال النصف الثاني من القرن الماضي. ففي عام 1947 تم تشكيل “حلف الريو” الذي وُقّعت معاهدته فى مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية بهدف إيجاد تعاون وثيق بين دول القارة الأميركية، لكنه ما لبث مع مرور السنين أن شهد انسحابات شملت العديد من الدول ليبقى حبراً على ورق. وفي عام 1954 أنشأت الولايات المتحدة حلفاً حمل اسم “معاهدة حلف جنوب شرق آسيا” (أو حلف مانيلا) لمواجهة المدّ الشيوعي في المنطقة وضمّ إلى جانبها كلاً من: أستراليا، وفرنسا، ونيوزيلندا، والفيليبين، وتايلند، والمملكة المتحدة، وبروناي وفيتنام، لكنه ما لبث أن حُلَّ في عام 1977.
وفي عام 1955 تشكل “حلف بغداد” المعروف باسم “المعاهدة المركزية”، بعدما وقعت تركيا والعراق ميثاقا ينصّ على تعاون الدولتين فى مجالات الأمن والدفاع، وتُرك باب العضوية مفتوحاً أمام “الدول التي يعنيها الدفاع عن السلم والأمن في منطقة الشرق الأوسط من الخطر الشيوعي”. وضمّ التحالف في أوجه كلاً من: إيران، وباكستان، وتركيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة. أما العراق الذي كان عضوا مؤسساً فقد انسحب رسمياً عام 1958، لتلحقه باكستان بعدما رفض أعضاء التحالف نجدتها أثناء حربها مع الهند عام 1971، ليتفكّك الحلف وينتهي مع قيام ثورة إيران عام 1979.
أمّا أكثر الأحلاف العسكرية رسوخاً واستمراراً في عصرنا الراهن فهو بلا منازع “حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، الذي تأسس في أبريل (نيسان) 1949، كقوة موازنة للقوة السياسية والعسكرية المتنامية للاتحاد السوفياتي آنذاك. لكن بعض الخبراء الاستراتيجيين يتوقعون للناتو مصيراً مشابهاً لوارسو.
الناتو إلى أين؟
مع انهيار الاتحاد السوفياتي وما تلاه من سقوط للنظم الشيوعية في أنحاء عديدة من العالم، لم يعد الوضع الاقتصادي والسياسي والعسكري المستجد يُبرر إنفاق الولايات المتحدة لأموالها ومواردها العسكرية كما حدث خلال الحرب الباردة. في عام 1949، حدّدت الولايات المتحدة مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية على أنها تتماشى مع أوروبا، لكن في عامنا الحالي لم تعد هذه المصالح هي نفسها. إذ بدأت واشنطن، ومنذ إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، تحويل اهتمامها ومواردها العسكرية نحو الجبهة الآسيوية ترقباً لصعود “التنين الصيني”، وبدأت تنظر إلى أوروبا بوصفها منافساً أكثر منه حليفاً.
ومنذ سقوط الاتحاد السوفياتي، والناتو يبحث عن سبب لوجوده. وقد منحت هجمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001 قبلة حياة للناتو؛ لكن مع توصّل الولايات المتحدة إلى اتفاق مع حركة “طالبان” الأفغانية، سيضمحل هذا السبب قريباً. ومع تزايد انشغال أميركا بصعود الصين، فإن ثمة شعوراً متزايداً لدى إدارة الرئيس دونالد ترمب بأن الناتو بات عبئاً على الولايات المتحدة لا يمكنها تحمله، وبأنه من الأفضل استبداله بمجموعة من التحالفات المؤقتة والأصغر حسب الحاجة، على شاكلة التحالف الدولي للقضاء على “داعش”.
ثمة أسباب عدة تشير إلى قرب تفكّك الناتو، بحسب ريتشارد كارول، الباحث لدى “بوليسي دايجست”؛ فقد نفد صبر الولايات المتحدة جرّاء رفض غالبية دول الناتو تحمل نصيبها العادل من أعباء الحلف المالية، لا بل لم يخفِ ترمب اعتقاده بأن حلف الناتو لم يعد كياناً قابلاً للحياة، وأن انسحاب الولايات المتحدة منه بات ضرورة ملحة. لكن التركيز على قضية التمويل يحجب مشكلات أخرى. فالإحباط يتزايد داخل أروقة الحلف، وهو ما عبّر عنه بوضوح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي وصفه أخيراً بأنه يعاني من “موت دماغي”، ويحتاج من أعضائه التوقف عن الحديث حول التمويل طوال الوقت وبذل الكثير من الجهد للتعامل مع المشكلات الاستراتيجية العميقة التي يعاني منها.
مع تخلي الولايات المتحدة شيئاً فشيئاً عن دورها كشرطيّ العالم، وتصميمها على نقل مركز ثقلها العسكري من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، فإن التحالف الذي استمر منذ عام 1949 يقترب من نهايته. إذ لم تعد الولايات المتحدة في ظل إدارة ترمب تعتبر أن الناتو بصيغته الحالية يخدم مصالحها الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية الوطنية. لا، بل تردّدت تسريبات في واشنطن مفادها أنه إذا أعيد انتخاب الرئيس ترمب لولاية ثانية فإنه سيعلن انسحابه من الناتو خلال العام الأول من إعادة انتخابه.
في 2017، وقّع 23 عضوا في الاتحاد الأوروبي على اتفاقية “بيسكو” الرامية لتعزيز التعاون الدفاعي، في مشهد أعاد للأذهان ما حدث عام 1966 عندما انسحبت فرنسا من قيادة حلف الناتو، ما شكّل زلزالاً هزّ وحدة الحلف آنذاك. شكّل توقيع هذه الاتفاقية أبرز خطوات دول الاتحاد في اتجاه تشكيل ذراع عسكرية تتخلص بفضلها من التبعية العسكرية للولايات المتحدة. ذراعٌ تعتمد عليها لتنفيذ سياستها خصوصاً في منطقة حوض المتوسط وشمال أفريقيا والشرق الأوسط وغيرها من مناطق الجوار الأوروبي.
ويرجّح الباحثون السياسيون، في حال استمرار فجوة التباعد بين طرفي الأطلسي، أن تلجأ الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو إلى زيادة إنفاقها العسكري، ليس لصالح الحلف، بل لصالح البدائل المطروحة، وأهمها تأسيس جيش أوروبي بقيادة فرنسا وألمانيا يتحمل مسؤولية الأمن الأوروبي. ومع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تتجه دول أوروبا أكثر فأكثر نحو تكثيف التنسيق العسكري في مجالات البنى التحتية الدفاعية وتوحيد نظم التسليح والاتصال والدعم اللوجستي، ليجعلوا أنفسهم أقل اعتماداً على الولايات المتحدة الملوحة من بعيد على الشاطئ الغربي للأطلسي، وأكثر ردعاً في وجه الدبّ الروسي الرابض على بوابات “القارة العجوز” الشرقية.
محمد الطاهر
اندبندت عربي