انحازت الولايات المتحدة الأميركية إلى جانب الشعب السوري ومشروعية مطالبه بالإصلاح والتغيير في بداية ثورته، وسعت إلى توحيد المعارضة السورية التي جسّدها، بداية الثورة، كلٌّ من إعلان دمشق والتجمع الوطني الديمقراطي والحركة الوطنية الكردية، إلا أن تلك المحاولات اصطدمت بإصرار المعارضة على البقاء منقسمة. وقفت أميركا إلى جانب كل المؤتمرات الوطنية السورية التي سعت إلى إيجاد كيان سياسي موحّد، منها مؤتمر القاهرة في يوليو/ تموز 2012، وكذلك تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في ديسمبر/ كانون الأول 2012، وتشكيل الهيئة العليا للمفاوضات أواخر 2016. إلا أن الاستراتيجية الأميركية فيما يخص رحيل النظام وشخوصه كانت مضطربة، ويكتنفها غموض كثير، لم تتبلور جميع ملامحها ومآلاتها.
مع تطور الأزمة السورية وكثرة الفاعلين فيها، الداخليين والخارجيين، حدثت تغيرات جذرية في مسار الأزمة، سواء لجهة ظهور منظمات إرهابية باتت مهدّدة للأمن الإقليمي والدولي، مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة الإرهابيين، أو لجهة التدخل الإيراني مع مليشياته الطائفية، أو لجهة التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب النظام. أوجد ذلك كله وضعاً سورياً لم يعد يخص السوريين وحدهم (شعب ثائر ونظام مستبد)، بل باتت الأزمة السورية دوليةً، وصراع مصالح ومناطق نفوذ. وخلال مسار الأحداث بات واضحاً بعض من ملامح الاستراتيجية الأميركية، ومنها:
إصرار أميركا، ومعها التحالف الدولي، على هزيمة “داعش” عسكرياً، ومنعه من إعادة تجميع نفسه، واحتلال بعض الأراضي وملاحقة قياداته وخلاياه النائمة. إصرار أميركا على إخراج جميع القوات الإيرانية والمليشيات الطائفية التابعة لها من جميع الأراضي السورية، والتنسيق مع جهات متعدّدة لتنفيذ هذه الاستراتيجية. رفض الحل العسكري للأزمة السورية، والعمل على إيجاد حل سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254، من خلال رعاية الأمم المتحدة ومباحثات جنيف. رفض البدء بإعادة الإعمار في سورية، قبل تحقيق الحل السياسي الشامل، وعرقلة أية جهود تسعى إلى
“للكرد أن يطالبوا بضمانات لحقوقهم دستوريا من القوى الوطنية والديمقراطية السورية ومن الولايات المتحدة”إعمار سورية قبل إنجاز هذا الحل. العمل على منع عودة النظام إلى جامعة الدول العربية وبذل كل جهود ممكنة في هذا الاتجاه. الضغط الاقتصادي المباشر على النظام من خلال عقوبات اقتصادية على عديد من مؤسسات النظام وداعميه المحليين، وعديد من شخصيات أركان النظام والتنسيق مع حلفائه الأوروبيين في هذا المسعى. إقرار “قانون قيصر” الذي سيدخل حيّز التنفيذ في منتصف يوليو/تموز المقبل، والذي سيؤدي إلى ما يشبه خنق النظام اقتصاديا. وكذلك ستطبق تلك العقوبات على داعمي النظام من الخارج، خصوصا روسيا وإيران. حيث إن العقوبات الأميركية المُطبّقة على روسيا وإيران لا علاقة لها بالملف السوري.
ومع كل ما سبق، لا تزال جوانب مهمة من الاستراتيجية الأميركية غامضة، منها: هل تبحث الولايات المتحدة عن حلٍّ قريب للأزمة السورية بشكل جاد، أم أنها لا تزال تمارس استراتيجية إدارة الأزمة وتوريط خصومها بشكل أعمق في سورية، وبالتالي تكليف الخصوم أثمانا باهظة، خصوصا اقتصادية؟ ما هو شكل الحل السياسي الذي تسعى إليه أميركا؟ هل هو رحيل هذا النظام، بكامل شخوصه وإيديولوجيته ونهجه الاستبدادي، والإتيان بالبديل الديمقراطي التعدّدي وتحويل مرتكبي الانتهاكات الجسيمة إلى المحاكم المختصة وطنيا ودوليا؟ أم أن الحل السياسي المقبول أميركياً هو مشاركة المعارضة مع النظام، أو جزء منه، في إدارة السلطة في البلاد؟ هل سيكون مقبولاً أميركيا بعض المساعي لترسيخ هذا النظام أو إعادة إنتاجه أو تدويره بطريقة ما من خلال تغييرات شكلية قد تطاول رأس النظام وحده، مع الاحتفاظ بجوهر النظام؟
ما هو موقع الكرد في سورية في الاستراتيجية الأميركية؟ وهل أميركا معنية بحماية الكرد، والعمل على ضمان حقوقهم القومية في دستور سورية الجديد؟ أم أن الكرد أو جزءا منهم مجرّد ثوار تحت الطلب لتنفيذ الاستراتيجية الأميركية المعلنة مقابل المال والسلاح، كما صرح الرئيس ترامب، بكل وضوح، في معرض رده على أحد الصحفيين، حين قرّر البيت الأبيض سحب قواته من سورية نهاية 2018؟ نرغب، نحن الكرد السوريين، أو الأغلبية الساحقة منا، وبشدة، أن يكونوا جزءاً من الاستراتيجية الأميركية في سورية، وضمن حساباتها في مستقبل سورية؛ لأسباب كثيرة، أهمها التشارك في القيم والمبادئ الإنسانية والديمقراطية والمصالح المشتركة في هزيمة الإرهاب، وإنهاء العنف والتطرّف في سورية، وإخراج إيران والمليشيات الطائفية، والبحث عن الحل السلمي للأزمة السورية، ورفض الحلول العسكرية.
ربما يتساءل كثيرون: أليست القضية الكردية قضية وطنية سورية، ويجب أن يكون حلها سورياً؟
“أليست القضية الكردية قضية وطنية سورية، ويجب أن يكون حلها سورياً؟”نؤكّد للجميع أن القضية الكردية في سورية وطنية بامتياز، وقرارنا الاستراتيجي هو حلها عبر حوار وتوافق وطني بين السوريين أنفسهم، وبمختلف مكوّناتهم. ولكن في الجانب الآخر، وفي الظرف السوري المشخص، والمتصدّع سياسياً واجتماعياً، وحتى جغرافياً، ألا يحتاج السوريون، بمختلف مكوّناتهم، إلى مساعدة الأصدقاء لتحقيق الحل السياسي والانتقال الديمقراطي، وتحقيق الأمن والاستقرار وإعادة الإعمار؟
هناك محطات، في سنوات الثورة السورية، مهمة جدا، كان للأصدقاء عموما، وأميركا خصوصا، الدور الرئيسي فيها، منها بيان “جنيف 1” في يونيو/ حزيران 2012، ومنها قرار مجلس الأمن 2118 لعام 2013، ومنها مؤتمر فيينا وما انبثق بعده من قرار مجلس الأمن 2254 والذي بات مرجعاً للحل السياسي. ألم يكن للولايات المتحدة الدور الأبرز في انطلاق مباحثات جنيف، بجميع جولاتها، وغيرها من البصمات الأميركية الواضحة والأساسية في الملف السوري، الأمر الذي يعطي للكرد في سورية مسوغا لطرح السؤال عن موقع الكرد في الاستراتيجية الأميركية، ويعطي مشروعية للكرد بالاستنجاد بالأصدقاء الأميركيين للمساعدة في ضمان حقوقهم، على الرغم من أنها قضية وطنية بامتياز. ألا يطلب السوريون من أميركا المساعدة في رحيل النظام، وإخراج إيران من سورية والمليشيات الطائفية، وممارسة مزيد من الضغط على النظام وداعميه لقبول الحل السياسي؟ إذاً: لمكوّن من السوريين، أعني به الكرد، كل الحق في أن يطالب بضمانات لحقوقه دستوريا من القوى الوطنية والديمقراطية السورية، ومن الولايات المتحدة الأميركية، صديقة الشعب السوري وثورته.
عبدالحكيم بشار
العربي الجديد