لا شيء يتقدم على الأسئلة في مئوية لبنان الكبير التي طغى كورونا وتراكم الأزمات على الاحتفال بها هذا العام، لبنان الكبير الذي أعلن الجنرال غورو قيامه من شرفة قصر الصنوبر في بيروت عام 1920 بعدما احتل دمشق وأسقط مملكة فيصل الأول الوليدة، هل كان إعلانه نوعاً من “خطأ جغرافي” في رأي فريق من السكان أو نوعاً من “خطأ تاريخي” في نظر فريق آخر أو واحداً من حلول “المسألة الشرقية” بالمنطق السائد أيام صارت السلطنة العثمانية “الرجل المريض” في الشرق؟
الفينيقيون وفخر الدين
أين لبنان اليوم من لبنان الممتد في التاريخ من أيام الفينيقيين وإمارة فخر الدين المعني الكبير والمماليك والإمارة الشهابية والقائمقاميتين والمتصرفية؟ هل ما يعانيه حالياً هو أمراض الشيخوخة أم أزمات وتحديات أخطر؟ أين ما كان على مدى حلقات التاريخ المتبدلة ما أمامنا في المستقبل؟ وإلى أي حد يمكن لبنان الذي سماه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني “أكثر من بلد، إنه رسالة” أن يقوم بدور “البلد، الرسالة” ونموذج العيش المشترك في منطقة تضربها العصبيات؟
على مدى عقود، قبل الحرب وخلالها وبعدها، كان السؤال الذي بقي بلا جواب في كل التسويات هو “أي لبنان نريد؟ اليوم يبدو السؤال الواقعي الدائر همساً وعلناً هو: أي لبنان يراد لنا؟ وما أكثر ما تغيرت الدنيا خلال 100 سنة، وبقي لبنان أسير المتغيرات الداخلية المرتبطة بالمتغيرات الخارجية، فلا مهرب من الارتباط الوثيق بالصراع الجيو سياسي في الشرق الأوسط وعليه، وكل محاولات ما سمي “فصل” أزمة لبنان عن أزمة الشرق الأوسط التي أساسها الصراع العربي الإسرائيلي فشلت حتى عندما رأت أميركا ضرورة ذلك.
أزمة لبنان
ويروي وزير الخارجية جورج شولتز أيام الرئيس رونالد ريغان في مذكراته أن الوزير السابق هنري كيسينجر قال له “لا تدعوا مشاكل لبنان تطغى على مشاكل المنطقة، قدموا مشروعاً للشرق الأوسط”، لكن شولتز قال له “هذه فكرة سيئة، أزمة لبنان شيء وأزمة الشرق الأوسط شيء آخر، ولن أساوم بواحدة على الأخرى”، ومن سوء حظ لبنان أن سياسة كيسينجر هي التي ربحت في النهاية.
حتى سنوات الاستقلال، ولو كان شكلياً، فإنها معدودة خلال 100 سنة، بين 1920-1943 كان الانتداب الفرنسي، عام 1958 نشبت ثورة في العراق أسقطت مملكة فيصل الثاني، ونزلت القوات الأميركية على الشاطئ اللبناني، بين 1975-2005 كانت الوصاية السورية خلال الحرب وبعدها، وكان الغزو الإسرائيلي ومجيء القوة المتعددة الجنسيات.
والمشهد اليوم بالغ التعبير، وصاية إيرانية من خلال “حزب الله” وحلفائه مع شيء من النفوذ الباقي لسوريا المضروبة بحرب طويلة والموزعة أرضها بين قوات عسكرية روسية وإيرانية وأميركية وتركية، حضور أميركي محدود مع تشديد العقوبات على “حزب الله”، انكفاء عربي، و”نأي بالنفس” عنا بعدما تجاوزنا سياسة “النأي بالنفس” عن صراع المحاور الإقليمية والدولية.
ما كان بلد التسويات والثقافة والإبداع في الأدب الموسيقي والغناء والفكر يراد له اليوم أن يكون الجبهة الأمامية للمشروع الإقليمي الإيراني، وما كان “أثينا” العرب مطلوب منه اليوم دور “اسبارطة” الإيرانية والقتال إلى ما لا نهاية له.
أكثر من ذلك، فإن البلد الذي دفع الثمن الأكبر في الصراع العربي الإسرائيلي بعدما استخدمته منظمة التحرير الفلسطينية كقاعدة “الكفاح المسلح” يدفع اليوم ثمن الطموح الإمبراطوري الإيراني والصراع بين واشنطن وطهران.
وإذا كانت جمهورية الملالي تفاخر علناً بأنها تحكم بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، فإن اللعبة تدار على أساس الاقتراب من مرحلة دراماتيكية خطيرة، مرحلة ما بعد لبنان وسوريا والعراق تحت عنوان “الثأر من سايكس بيكو”، لكن هذه أحلام في النهاية، فلا قوة إقليمية أو دولية تقبل بتوسع النفوذ الإيراني قبل الحديث عن إمبراطورية تضم العراق وسوريا ولبنان، لا أوضاع “المتروبول” في الداخل مريحة، إذ تعاني إيران أزمة مالية واقتصادية حادة وتخنقها عقوبات أميركية شديدة، فضلاً عن حرب سوريا وتوازنات الوصع اللبناني وصعود الوطنية العراقية حتى داخل المكون الشيعي “الذي قاد التظاهرات ضد الفساد والنفوذ الإيراني.
لبنان يموت وآخر لم يولد بعد
ومهما يكن، فإن مئوية لبنان الكبير التي غابت احتفالاتها على الرغم من أحاديث الاستعداد لها ليست خطاً فاصلاً بين لبنان يموت وآخر لم يولد بعد، صحيح أن الوطن الصغير في ضيق شديد، وليس أصعب من أزماته سوى ضمان ما يساعد الخروج منها، لكن الأصعب هو تغيير جوهر لبنان وطمس هويته، ولو بقوة مشروع إقليمي صار في الـ 40 من عمره، فكيف إذا كان صاحب المشروع يملك كل أنواع الصواريخ من دون القدرة على تأمين مطالب شعبه المعيشية؟ وكيف إذا كانت أفكاره تعود إلى ما قبل القرون الوسطى؟
رفيق خوري
اندبنت عربي