يبدو بشار الأسد مطمئناً لوضعه، على الرغم من أن سورية، الدولة، تكاد تنقرض. يجد الوقت الكافي لخوض معارك وسجالات، ويقوم بتصفية حسابات مع مراكز القوى لديه، في الوقت الذي يمرّر سيد الكرملين، المفترض نظرياً أنه المخطط ليوميات دمشق، أيامه الموسكوفية بصعوبةٍ بالغة، ويعد الأيام، بالساعات والدقائق، ليصل إلى موعد ذروة تفشّي وباء كورونا، واستعادة أسعار النفط عافيتها، بأقل قدر من الخسائر.
يتعاطى بشار الأسد مع الزمن السوري على أنه ملك له، فما دام قد نجا من السقوط يوم كان ثوار دمشق على بعد مئات الأمتار من قصره، وبعدما قام بتنظيف الجوار وما بعد الجوار من هؤلاء المتمرّدين على حكمه، هم وأولادهم وأحفادهم، وباتوا يصارعون العراء والغربة بعيداً، فإن الزمن السوري صار ملكاً له حتى يسلم ابنه حافظ السلطة.
يدخل خلافه مع ابن خاله رامي مخلوف ضمن هذا الفهم. القضية ليست خلافات مالية بحجم مئتي مليون دولار، هذا تفصيل صغير في مسيرة مديدة يخطّط الأسد لها. المسألة أن مخلوف بات جزءاً من أثاث انتهت موضته، وبات وضعه نافراً في سياق الترتيبات الجديدة التي تتولى السيدة أسماء تجهيزها لمرحلة لاحقة، اسمها مرحلة حافظ بشار الأسد.
يبدو أن رامي مخلوف أول من فهم الحكاية، فلم يجد مخرجاً من هذه الأزمة سوى “الحوقلة”،
“تستعجل روسيا إنضاج التطورات في سورية لتبدأ بجني ثمار تدخلها الذي تأخر كثيراً”والإكثار من ذكر الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، ليس بسبب إيمانٍ هبط عليه فجأة، وليس بغرض كسب تعاطف البيئة المؤيدة، بل لأنه يستحيل عليه فهم هذا المنطق في إطار قواعد اللعب السياسي، ولا التنافس الاقتصادي، ولا حتى الصراع المافيوي الذي هو أقرب أشكال الصراع التي يتقنها ويفهمها.
ولكن ماذا سيفعل بوتين، الذي لا يجيد الحوقلة ولا يعرف تأديتها؟ كيف سيصبر نفسه على قضاء زمن بشار الأسد طويل الأمد! بوادر أزمة بوتين، وإحساسه بالمقلب الكبير الذي وقع فيه، بدأت بالظهور منذ فترة، حاول حلّها عبر الإعلام، فضح آليات عمل نظام الأسد، وضعفه وفساده، وكان بوتين يتوقّع أن يرسل الأسد إليه رسالة محتواها كلمه واحدة “فهمتكم” ويخضع لأوامر بوتين كلية. لم يحسب بوتين أن الأسد سيفاجئه بورقة اسمها خالد عبود، على اعتبار أن هذا الرجل، صاحب نظرية المربعات والدوائر، قد فات زمنه وأوانه، وخرج من المعادلة منذ بدأ بوتين تدوير الزوايا في الصراع السوري.
تستعجل روسيا إنضاج التطورات في سورية لتبدأ بجني ثمار تدخلها الذي تأخر كثيراً، مئات مليارات الدولارات التي ستمنحها عملية إعادة الإعمار للشركات الروسية، عوائد تشغيل ميناء طرطوس الذي تخطّط روسيا إلى تحويله مركزاً إقليمياً يؤمن الخدمات للعراق والأردن وإيران وحتى الخليج العربي، فضلاً عن أرباح الفوسفات والأسمدة، بالإضافة إلى عوائد ملايين براميل النفط والغاز الذي اكتشفته الشركات الروسية في سورية، وتنتظر استخراجه بعد حصولها على التمويل اللازم لهذه العملية.
يبدو أن بوتين لم يفهم بنود الاتفاقات بينه وبين الأسد، أو أنه لم يقرأ ما بين السطور، ولم يتنبه إلى الثغرات التي تنطوي عليها تلك التفاهمات، إذ يفهم بوتين أن الأسد منحه كل هذه الأرزاق، ليفكّ حصار الثوار عنه، فمن أوحى لبوتين أن الأسد، في تلك الأثناء، كان مأزوماً إلى هذه الدرجة، ألم تكن لديه بدائل، مثل خيار اللجوء للساحل وتشكيل دولة هناك، من دون الحاجة لتدخل بوتين وعاصفة السوخوي خاصته؟ فكيف سيقبل الأسد بصيغة تجرّده من كل شيء لإرضاء بوتين!
يفهم الأسد الأمر بشكل مختلف، أنا أمنحك هذه الامتيازات، مقابل أن تحمل أنت “الشيلة” بقمحها
“الأسد يقول لبوتين، مثلما ستحكم أنت روسيا حتى عام 2036، يحق لي البقاء في السلطة مدّتين إضافيتين”وزؤانها، وهذا يتضمن إعادة تأهيلي للحكم، والقبول بتوريثه لابني حافظ، والثمن الذي دفعته لك يغطي مستحقات العملية. أما أن تقول لي إنك أعدت الاستقرار والنظام لسورية وسواها من هذه القوالب، فهذا لا يعنيني. لو أردت ذلك لقبلت بتسوية مع أولئك المتمرّدين الذين يسمون أنفسهم ثواراً، وهم بالمناسبة لم يطالبوا بأكثر من إقالة عاطف نجيب، ابن خالتي، الذي لم أكن أحبه في الأصل، وكانوا سيستقبلونني في درعا استقبال الأبطال. وأحب أن أذكّرك، على هامش هذا السجال بيننا، بأن وفداً من درعا زارني في القصر في أيام التمرّد الأولى، وجلس رئيسه، الشيخ أحمد الصياصنة، على طقم الكنب، على يميني .. لا على يساري، حتى أكون صادقاً في الحلفان، ووعدني باستقبالي بمنسف مليحي، هل تعرف ماذا يعني مليحي سيد بوتين؟
يستطيع بشار قول ذلك وأكثر لبوتين. دع عنك الصور التي حاول بوتين تصديرها للعالم عن تحكّمه ببشار الأسد وإذلاله له، من إجباره على الوقوف خلف الخط الأصفر في حميميم، أو إجلاس وزير دفاعه على كرسيٍّ مخصّص للأطفال. بالأصل بشار يفسر ذلك ضعفا وعجزا وقلة حيلة من بوتين الذي عجز عن إيجاد بديل له، على الرغم من بحثه المضني عن هذا البديل، ولن يستطيع بوتين التقدّم خطوة واحدة نحو تحقيق أهدافه ومكاسبه، فلا هو يملك بديلاً عن الأسد، ولا هو قادر على إزاحته، لأنه يعرف تماماً التشابكات الهائلة التي صنعها الأسد داخل نظامه وربطها به، وأي زحزحة في هذا المعمار ستهدم المعبد على رأس روسيا التي بدأت تستشعر أنها قد تكون ذاهبةً إلى أفغانستان جديدة (وكالة تاس). الأسد يقول لبوتين، مثلما ستحكم أنت روسيا حتى عام 2036، يحق لي البقاء في السلطة مدّتين إضافيتين. إلى ذلك الحين يكون حافظ قد بلغ السن التي تؤهله لوراثة الحكم عني، كيف سيتم إخراج هذا الأمر، ليست مشكلتي، حلّها أنت. .. يقول مثل شامي: ذقن الطمّاع بذنب المفلس.
غازي دحمان
العربي الجديد