يعزو المحللون السياسيون تردد الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مواجهة الاستفزازات الإيرانية، وكان آخرها الشهر الماضي، إلى تفشي فايروس كوفيد – 19، الذي كانت الولايات المتحدة من أكبر ضحاياه، إضافة إلى اقتراب موعد الانتخابات الأميركية المقرر خوضها في 3 نوفمبر 2020. ضمن هذه الأجواء، آخر ما يريده ترامب هو التورط في الدخول في حرب مع إيران.
ويحرص حكام طهران على إبقاء التوتر والتهديدات شرط أن لا تصل إلى حرب شاملة، لأنها تمنحهم شرعية قمع أي صوت معارض داخل إيران.
ورغم أن الذرائع المقدمة لتفسير التردد الأميركي تبدو مقنعة، إلا أن الرجوع إلى الوراء قليلا، يشكك بمصداقيتها؛ وتبدو التعليمات التي وجهها الرئيس الأميركي لقوات البحرية الأميركية بإطلاق النار على أي سفن إيرانية تتحرش بالسفن الأميركية في مياه الخليج، مجرد استعراض قوة، يخدم مصلحة حكام طهران.
آخر تلك المناوشات هجوم في محيط السفارة الأميركية، هو الأول من نوعه منذ تولي رئيس الحكومة العراقية الجديد مصطفى الكاظمي مهام منصبه، وجهت البحرية الأميركية على إثره تحذيرا لنظيرتها الإيرانية، بالبقاء بعيداً 100 متر عن سفنها الحربية، وإلا ربما “تفسر على أنها تهديد، وتواجه إجراءات دفاعية قانونية”.
ويأتي الإنذار في أعقاب حادث وقع في أبريل الماضي، حيث اقتربت 11 سفينة إيرانية من سفن البحرية وقوات خفر السواحل الأميركية في الخليج لمسافة تسعة أمتار، وهو ما وصفه الجيش الأميركي بالسلوك “الخطير والاستفزازي”.
وعقب الحادث وجّه الرئيس الأميركي تهديداً لطهران وأصدر تعليمات للبحرية الأميركية بإطلاق النار وتدمير أي سفن إيرانية تتحرش بسفنها.
منذ اليوم الأول للثورة الإسلامية الإيرانية، التي أوصلت آيات الله للحكم، حرص هؤلاء على اختراع عدو أطلقوا عليه اسم “الشيطان الأكبر” متمثلا بالولايات المتحدة. ومنذ ذلك التاريخ لم تتوقف الاستفزازات الإيرانية.
تمتلك إيران تاريخا حافلا بتهديد مرور الطاقة وحركة الشحن الدولية في مضيق هرمز، الذي تقتسم شواطئه مع سلطنة عمان، وفي مياه الخليج. وتسعى طهران إلى استغلال تلك العمليات للتنفيس عن أزماتها الداخلية المتفاقمة.
وتشير إحصائيات رسمية إلى أن البحرية الأميركية سجلت 22 حادثة استفزاز لقطع بحرية وسفن تجارية أميركية خلال عام 2015، في الوقت الذي كانت الإدارة الأميركية برئاسة باراك أوباما تسعى فيه لعقد اتفاقية الملف النووي بوساطة سلطنة عمان.
وواصلت إيران عرقلة حركة الشحن الدولية خلال الأعوام التي تلت التوقيع على “اتفاق إطار” بشأن برنامج إيران النووي في 2 أبريل 2015 بلوزان السويسرية، بعد مفاوضات شاقة دامت 18 شهرا بين إيران ومجموعة (5 + 1) التي تضم الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وكانت الاشتباكات عن قرب مع سفن عسكرية إيرانية أمرا شائعا في عامي 2016 و2017، وفي عدة مناسبات أطلقت سفن البحرية الأميركية طلقات تحذيرية على سفن إيرانية اقتربت منها.
وبلغت الحوادث المسجلة 36 حادثا في عام 2016 وحده، بما فيها استيلاء القوات البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني في يناير على زورقين تابعين للبحرية الأميركية، واحتجاز عشرة بحارة أميركيين لمدة 15 ساعة، والإفراج عنهم بعد عرضهم على وسائل الإعلام الإيرانية إمعانا في التحدي والإذلال.
وفور وصول ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2017، افتتح عهده بإجراء مراجعة شاملة لسياسات بشأن طبيعة علاقات بلاده مع إيران واستمرار نشاطاتها البحرية وتهديداتها.
وتصاعد التوتر بين البلدين بشكل مطرد منذ عام 2018، عندما انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، وأعاد في مايو 2019 فرض عقوبات أصابت الاقتصاد الإيراني بالشلل. وبلغت الأزمة ذروتها عندما قتلت الولايات المتحدة قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني.
ويعتقد ترامب أن إستراتيجية أوباما قد باءت بالفشل، فهي لم توقف التهديدات الإيرانية للأمن والاستقرار الدوليين، وكان ذلك أحد أهم الأهداف من توقيع صفقة الملف النووي، والتي بموجبها أفرجت الولايات المتحدة عن المزيد من الأرصدة الإيرانية المجمدة.
ومنذ مايو 2019 شهدت مياه الخليج العربي وخليج عمان سلسلة من الهجمات على ناقلات نفط واستفزاز سفن حربية، واحتجاز سفن تجارية، اتهمت الولايات المتحدة إيران أو القوات الحليفة لها بالوقوف خلفها.
وخلال شهري مايو ويونيو من عام 2019 شنت البحرية التابعة للحرس الثوري هجمات عدة على ناقلات نفط سعودية وإماراتية ومن جنسيات أخرى، واستولت على سفن وناقلات نفط وأسقطت طائرة استطلاع أميركية دون طيار فوق المياه الدولية في مضيق هرمز، وفق الرواية الأميركية، التي نفتها الرواية الإيرانية، وادعت أنها أسقطتها داخل الأجواء الإيرانية.
التهديدات والمناوشات التي جرت خلال ست سنوات لم تكف لتبرير نشوب حرب شاملة، رغم أن موازين القوى العسكرية في المنطقة تميل لمصلحة الولايات المتحدة، التي تمتلك قدرات عسكرية متفوقة على القدرات الإيرانية التقليدية في القوتين البحرية والجوية، بالإضافة طبعا إلى القدرات الأميركية غير التقليدية.
ويقدر عدد الجنود الأميركيين في المنطقة وأفغانستان بما بين 60 و80 ألف جندي من مختلف الصنوف القتالية ينتشرون في الخليج العربي والعراق وأفغانستان وغيرها.
هل يمكن تفسير الموقف الأميركي من التحرش الإيراني المتكرر بأنه مجرد تردد؟ بالتأكيد لا، خاصة إذا تساءلنا عن الأسباب التي جعلت واشنطن تغض الطرف عن التدخل الإيراني في دول المنطقة، بدءا بالعراق، وصولا إلى لبنان وسوريا غربا، وإلى اليمن جنوبا.
وهل يمكن أن نستنتج من هذا كله أن الولايات المتحدة تضحي بمصالحها، في منطقة إستراتيجية تملك أكبر احتياطي نفطي في العالم؟
حركة الأسواق تصنعها الأخبار، الجيد منها والسيئ، والتوتر في منطقة تعتبر الأهم إستراتيجيا يضمن تدفق الأخبار، وبالتالي يضمن حركة الأسواق، وهذا لا يمنع واشنطن عن مراقبة التحركات الإيرانية عن كثب، وعندما تشعر أن هذه التحركات أصبحت تشكل خطرا حقيقيا عليها، لن تتردد في مهاجمتها. وطالما بقيت إيران نمرا مروضا، يبقى التردد الأميركي قائما، ولن تتورط واشنطن في حرب شاملة معها إلا على الورق.
العرب