منذ تدخّل حلف شمال الأطلسي “الناتو” في ليبيا، في مارس (آذار) 2011، لإطاحة نظام معمر القذافي، تعيش البلاد حالة اضطراب وفوضى عارمة، تتنازعها الفصائل المسلحة والجماعات الإرهابية المتطرفة. اعتبر قادة الناتو أن مهمتهم في ليبيا انتهت بمشهد التخلّص من القذافي في عملية “دموية” وتمثيل بجثته، ذلك المشهد الذي كان بداية لحقبة جديدة مأزومة في تاريخ البلد الذي عانى من قبل ويلات الاحتلال الأجنبي منذ العثمانيين، ومن بعدهم الإيطاليين.
واليوم يقف الحلف العسكري الغربي – الذي تدخّل في ليبيا تحت مسمى عملية الحماية الموحدة التي تستدعيها قاعدة “المسؤولية عن الحماية (R2P)”، بهدف حماية الشعب الليبي من حرب أهلية- عاجزاً بل منقسماً على ذاته حيال المشهد الفوضوي الذي حوّل البلد العربيّ إلى دولة فاشلة، بحسب وصف خبراء ومراكز الأبحاث الغربية.
اتفاق الصخيرات
تموج ليبيا بالقتال بين الفصائل المسلحة منذ رحيل القذافي، وقد فشلت الحكومات الانتقالية في استعادة النظام داخل البلاد. وعلى الرغم من وجود حكومة منتخبة، لكن في ظل استمرار القتال بين الفصائل المختلفة، سعت الأمم المتحدة لعقد اتفاق يجمع الفرقاء الليبيين حيث تم توقيع اتفاقية سياسية برعاية المبعوث الأممي آنذاك، مارتن كوبلر، عُقدت في مدينة الصخيرات بالمغرب في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2015، التي بموجبها تم استبعاد الحكومة المنتخبة بشكل “تعسفي” ومنحها لهيئة غير منتخبة تحت مسمى حكومة الوفاق الوطني، يترأسها فايز السراج، وينصّ الاتفاق على توليها الحكم لمدة عام قابلة للتمديد مرة واحدة.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال استقبالة لرئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج في إسطنبولرويترز.jpg
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال استقبال رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج في إسطنبول (رويترز)
أبقى الاتفاق على البرلمان المنتخب في يونيو (حزيران) 2014، كسلطة تشريعية للدولة خلال المرحلة الانتقالية، التي لم تذكر مدتها. لكن في يناير (كانون الثاني) 2020، أعلن مجلس النواب الليبي إلغاء المصادقة على اتفاق الصخيرات وانعدام كل ما يترتب عليه. وجاء القرار عقب إعلان رئيسه، عقيلة صالح، عن فشل اتفاق وقف إطلاق النار مع حكومة الوفاق برئاسة السراج بسبب انتهاك الميليشيات للاتفاق.
لم يعد يعترف المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، بحكومة السراج التي تسيطر من خلال ميليشيات مسلحة على العاصمة طرابلس ومدن الغرب الليبي، على الرغم من أن الاتفاق ينصّ على نزع أسلحة الميليشيات ودمجها ضمن الجيش الليبي الموحّد. ودخلت البلاد مرحلة صراع شديدة مع إعلان الجيش الليبي نيته تحرير طرابلس من الجماعات الإرهابية.
وفي 17 ديسمبر 2017، أعلن حفتر “انتهاء صلاحية” اتفاق الصخيرات ومعه ولاية حكومة الوفاق الوطني بموجب ما ينصّ عليه الاتفاق. لكن مجلس الأمن الدولي شدّد وقتها على أن الاتفاق “يبقى الإطار الوحيد القابل للاستمرار لوضع حدّ للأزمة السياسية في ليبيا”، في انتظار إجراء انتخابات كان مقرراً عقدها في 2018. كما عاد في مارس الماضي، وأعلن إسقاط اتفاق الصخيرات وتولي قيادة البلاد بتفويض من الشعب، بينما اعتبرت حكومة الوفاق أن الإعلان بمثابة “انقلاب”.
أين يقف الناتو؟
في الوقت الذي يلقي الكثير من الشرق والغرب باللوم على الناتو في الفوضى التي تعيشها ليبيا، سواء بالتدخل لدعم الجماعات المتمردة المسلحة ضد القذافي أو بسبب مغادرته سريعاً تاركاً البلاد ممزقة في صراعات الفصائل المسلحة، فإن الناتو يقف مفككاً أمام المشهد الحالي مع انقسام أعضائه بشأن الوضع في البلاد، وتجاوزات تركيا بحق اليونان والمناوشات بين البلدين فوق بحر إيجة، وهو التوتر الذي أصبحت ليبيا سببا رئيساً فيه.
ويقول إيثان كورين، الدبلوماسي الأميركي الذي عمل في ليبيا بين عامي 2004 و2006، إن نهج الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بعدم التدخل في ليبيا بعد رحيل القذافي، شجّع دولاً مثل تركيا وقطر على توجيه الانتخابات الوطنية في البلاد لصالح الجماعات الأيديولوجية والأقليات الإسلامية. وهذا التطور عارضه بشدة معظم الليبيين الذين كانوا عاجزين عن إيقافه. ويشير إلى أن هذا السياق الآني لهجوم 11 سبتمبر (أيلول) 2012 على البعثة الدبلوماسية الأميركية في بنغازي، الذي قتل فيه السفير كرستوفر ستيفينز، أخرج الغرب من بنغازي وسهّل سيطرة تنظيم القاعدة أولاً، ثم داعش على المدينة.
يضمّ الناتو في عضويته الولايات المتحدة وتركيا والدول الأوروبية، بما في ذلك اليونان وفرنسا وإيطاليا الأعضاء أيضاً في الاتّحاد الأوروبي. ويكافح الاتحاد من أجل الحفاظ على جبهة موحّدة تجاه الأطراف المتصارعة في ليبيا، بسبب الانقسامات بين فرنسا، المتعاطفة مع حفتر الذي يأخذ على عاتقه تطهير البلاد من الجماعات الإرهابية، والمدعوم من روسيا أيضاً، وإيطاليا التي دعمت حكومة الوفاق الوطني، وأبرمت معها اتفاقاً لمنع المهاجرين غير الشرعيين من التسلل إلى سواحلها، وفي نفس الوقت عقدت معها اتفاقات تتعلق بالنفط.
وبحسب مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، يقدّر احتياطي النفط والغاز في ليبيا بنحو 48 مليار برميل، وهو الأكبر في أفريقيا وتاسع أكبر احتياطي على مستوى العالم. وتنتج مؤسسة النفط الوطنية (NOC) في البلاد نحو 1.3 مليون برميل يومياً. ويقول محللون غربيون إن روسيا قد ترى انتصار حفتر كفرصة للحصول على عقود تصدير النفط، على الرغم من أن شركة النفط الوطنية تقول إنها لا تأخذ أي جانب في الصراع.
مجموعة معقّدة من المصالح
وفي حديثه لـ”اندبندنت عربية”، أوضح سيموند سكوفيلد، الزميل الرفيع لدى مركز الأمن الإنساني، مركز بحثي مقره لندن، أن إيطاليا تعتبر ليبيا ساحتها الخلفية، كمستعمرة سابقة، وأولويتها رؤية حكومة مستقرة وضوابط أكبر على تدفقات الهجرة عبر البحر المتوسط إلى شواطئها. وترى أن حكومة الوفاق الوطني هي أفضل التوقعات، وقد تصادمت مع فرنسا بشأن هذه القضية.
ومن جانب آخر، تدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني وقد بدأت في إرسال قوات ومقاتلين سوريين من الجماعات الموالية لها إلى طرابلس لدعم حليفها السراج في مواجهة حفتر. ويتفق الخبراء، بحسب مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، على أن أنقرة تستهدف الاستفادة من علاقاتها مع السراج في تأكيد نفسها كقوة في شرق البحر المتوسط والاستحواذ على جزء من مخزون الغاز الطبيعي الذي يقع قبالة سواحل قبرص، بزعم أحقيتها في التنقيب في هذه المنطقة.
كما تأمل تركيا في استخدام دعمها لحكومة الوفاق الوطني لكسب النفوذ الاقتصادي على ليبيا، وليس شرق المتوسط فحسب. ولمواجهة العلاقات المتنامية بين قبرص ومصر واليونان، جرى الاتفاق بين أردوغان والسراج في ديسمبر على تقاسم “منطقة اقتصادية حصرية” تمتدّ من الساحل الجنوبي لتركيا إلى الساحل الشمالي الشرقي لليبيا. ويقول معارضو الاتفاق إنه غير قانوني ويمكن أن يعطّل التجارة وتدفقات الطاقة. كما اعتبرته اليونان، عضو الناتو والاتحاد الأوروبي، انتهاكاً لسيادة أراضيها.
ويقول سكوفيلد إن هناك مجموعة معقّدة ومتعددة الطبقات من المصالح الوطنية في ما يتعلق بالبلد العربي. فاليونان قلقة بشأن الاتفاق بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني الذي يعوق المياه الإقليمية اليونانية والموارد الطبيعية التي تحتوي عليها. وفرنسا، من جانب تعارض بشكل “غريزي” الإسلاميين، ومن جانب آخر تحاول إعادة تأكيد موقفها كحارس عسكري لأوروبا القارية، وهي تدعم اليونان في معارضة ما يرونه “مسعى تركيا التجاري العثماني الجديد”.
ويضيف أن تركيا تشعر بالإحباط بسبب ما ترى أنه دعم ضعيف من الناتو في ليبيا وغياب الدعم في سوريا، حيث تشنّ أنقرة حملة ضد السكان الأكراد، الذين تعتبرهم تهديداً استراتيجياً. وهناك قلق خاص وسط أعضاء آخرين في الناتو من أن تركيا يبدو أنها تنتهك حظر الأسلحة المفروض على جانبيّ الصراع الليبي.
والولايات المتحدة على الرغم من أنها عضو الناتو الأقوى، لكن اقتصر دورها خلال السنوات الماضية على الضربات الجوية العرضية التي تستهدف أعضاء في تنظيم داعش. لكن العام الماضي، أشاد الرئيس دونالد ترمب بحفتر ومكافحته للجماعات الإرهابية في لقاء جمعهما. والأسبوع الماضي، أبلغ وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، السراج رفض واشنطن استمرار تدفق الأسلحة والذخائر من وإلى ليبيا.
مخاوف من روسيا
لكن يظلّ سلوك قيادة الناتو بشكل عام مثيراً للجدل، بخاصة بعد تعليقات أدلى بها يانس ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف الناتو، لصحيفة “لا ريببليكا” الإيطالية، في وقت سابق من الشهر الحالي، عندما قال “في ليبيا هناك حظر (دولي من الأمم المتحدة) على الأسلحة يجب احترامه من جميع الأطراف. ومع ذلك، هذا لا يعني وضع القوات التي يقودها حفتر وحكومة فايز السراج، وهي القوة الوحيدة التي اعترفت بها الأمم المتحدة، على نفس المستوى”، مضيفاً أن الناتو مستعد لتقديم دعمه لحكومة طرابلس. وهي التعليقات التي أثارت غضب أطراف عدة، على رأسهم اليونان التي تواجه تهديداً أمنياً خطيراً من تركيا.
وردّت اليونان سريعاً، في بيان للمتحدث باسم وزارة الخارجية، ألكسندروس ينيماتاس، مُذكِّرة مسؤولي الناتو بأنه لم يتم اتخاذ مثل هذا القرار من الدول الأعضاء في الحلف، وأن قرارات السياسة الخارجية يجرى اتّخاذها بناء على إجماع الأعضاء. كما أعلن أن اعتراف ستولتنبرغ بحكومة الإخوان المسلمين في ليبيا، في إشارة إلى حكومة السراج التي تسيطر عليها الجماعة، “من الواضح أنه لا يعكس مواقف الحلف”.
ومن الواضح أن تعليقات ستولتنبرغ تنطلق من مخاوف غربيّة واسعة تتعلق بالتدخل الروسي في ليبيا التي تقع على الشطر الجنوبي من أوروبا بما يعتبر مسألة أمنية حساسة للأوروبيين. وأوضح سكوفيلد أن الناتو يرى الخلاف بين اليونان وتركيا أمراً بين البلدين، وليس مسألة تتعلق به، فالقلق الاستراتيجي الأساسي لحلف شمال الأطلنطي هو زيادة النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث أعاد الروس بقوة تأسيس موقعهم بعد أن طردهم الغرب من المنطقة.
وتعزّز روسيا الدعم على الأرض للجيش الوطني الليبي، ومن ناحية أخرى تلقي باللوم بشأن الوضع في البلاد على الناتو، متهمة إياه بالفشل في ضمان انتقال مناسب بعد التدخل ضد العقيد القذافي في عام 2011. ويقول المتخصص البريطاني إن الوضع الليبي يطرح تحدياً جدياً لحلف الناتو، بالنظر إلى أن مصالح دوله الأعضاء يبدو أنها تتحرك في اتجاهات مختلفة. وفي حين أن هناك القليل من الشهيّة لمزيد من التدخل الواسع في ليبيا، فإن الناتو سيعتبرها ضربة استراتيجية إذا سيطر حفتر بمساعدة روسيا، على السلطة، مقابل انهيار حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة.
وتقول آنا بورشفسكايا، الزميلة لدى معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، إن الكرملين يعامل ليبيا علناً كنقطة مركزية أخرى لأنشطته في الشرق الأوسط. فبعد سنوات من الإهمال الأميركي، تحوّلت البلاد إلى ساحة حرب بالوكالة، ويتنافس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بلهفة ليصبح صانع القرار الرئيسي. ففي يناير الماضي، حاول دفع خليفة حفتر إلى توقيع اتّفاق لوقف إطلاق النار في موسكو مع السراج (رغم فشل الجهود). كما شارك بوتين في مؤتمر برلين الذي انعقد في 19 يناير بهدف إعادة توجيه الأطراف نحو الحلّ السياسي.
العودة إلى المسار السياسي
وفي ظل هذا المشهد المعقّد، تعدّ العودة إلى المسار السياسي السبيل لإنقاذ البلاد من دوامة صراع إقليمي. وربما يكون تراجع قوات الجيش الوطني الليبي خلال الأسابيع الماضية، فرصة للقوى الغربية للضغط من أجل مفاوضات جادّة بين أطراف الصراع والحصول على نفوذ أكبر في ليبيا مقابل روسيا.
ويقول الديبلوماسي الأميركي كورين، في مقال نشره مطلع ديسمبر الماضي، إنه يمكن لحلف الناتو، على سبيل المثال، أن يعرض التوسط في تطبيق وقف لإطلاق النار يوفّر للمقاتلين من جميع الجهات ممراً آمناً وحصانة من جميع الجرائم باستثناء جرائم الحرب، ولكن مقابل نزع السلاح الفوري. ويضيف أن عليه أيضاً أن يرفض أعمال تركيا المدمرة في كل من سوريا وليبيا، ومنع التدفّق الإضافي للأسلحة والمقاتلين إلى البلاد. وينبغي أن يساعد الناتو ليبيا على تشكيل حكومة مؤقتة تكنوقراطية، لحين إجراء انتخابات وطنية جديدة ووفقاً لدستور مؤقت (ويبدو أن هناك إجماعاً شبه داخلي في ما يتعلق بأهمية دستور البلاد الفيدرالي لعام 1963 لعملية وطنية من التكامل والمصالحة طويلة المدى).
ويرى الدبلوماسي الأميركي أنه سيكون لهذا فائدة إضافية تتمثل في الإنهاء الفعلي، مرة واحدة وإلى الأبد، للخيال القائل بأن حكومة الوفاق الوطني التابعة للأمم المتحدة هي إطار قابل للتطبيق لحلّ العلل الليبية. علاوة على ذلك، يجب على الحلف المساعدة في حماية موارد النفط والغاز في البلد العربي، وهو أمر حاسم لكل من الرفاهية الاقتصادية لليبيا وأوروبا، وتشجيع دول المنطقة على الاستثمار في تنويع اقتصادات البلاد الإقليمية في مجالات مثل الخدمات البحرية والسياحة والبنية التحتية الطبية.
وترى بورشفسكايا أن بوتين قد يكسب بفضل مكانته في ليبيا وسوريا تأثيراً إضافياً على تركيا. فإذا اشتدّت عدائية أنقرة في ليبيا كثيراً، فبإمكانه الضغط عليها في سوريا، مما يثير احتمال زيادة الارتباط بين الأنشطة الروسية على الجبهتين في الأشهر المقبلة. لكن واشنطن هي الوحيدة التي لديها نفوذ كافٍ للتوصل إلى حل حقيقي للنزاع الليبي.
تطور الموقف الأميركي
ويبدو أن واشنطن اتّجهت بالفعل لاتخاذ موقف أكثر فعالية، فبالإضافة إلى تحذير بومبيو للسراج بشأن تدفق الأسلحة والذخائر من تركيا، فخلال الأيام الماضية بدأت الولايات المتحدة في التحدّث بصوت أعلى بشأن الوجود الروسي في ليبيا. وحذّرت وزارة الدفاع الأميركية، أمس الثلاثاء، من نشر روسيا طائرات مقاتلة في ليبيا لدعم حفتر. وقال الجنرال ستيفن تاونسند، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، في بيان، إنه “من الواضح أن روسيا تحاول قلب الميزان لصالحها في ليبيا. تماماً مثلما رأيتهم يفعلون في سوريا، فإنهم يوسّعون وجودهم العسكري في أفريقيا”. هذه التطورات تدفع باتجاه دور أكثر نشاطاً من واشنطن نحو الضغط لاتفاق بين الفرقاء الليبيين.
إنجي مجدي
اندبندت عربي