جوادر، قطعة أرض نائية على الساحل الجنوبي الغربي لباكستان. ميناؤها هو المحطة الأخيرة في ممر مزمع تصل قيمته إلى 62 مليار دولار، يربط المقاطعة الغربية غير الساحلية في الصين ببحر العرب، جوهرة التاج لمبادرة “الحزام والطريق” للرئيس شي جين بينغ، المصممة لبناء البنية التحتية والتأثير في جميع أنحاء العالم.
دعت الخطط أصلاً إلى إنشاء ميناء بحري وطرق وخطوط سكك حديد وخطوط أنابيب وعشرات المصانع وأكبر مطار في باكستان. ولكن، بعد مرور سبع سنوات تقريباً على تدشين الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني ( (CPEC لا يوجد دليل جليّ على تحقيق هذه الرؤية، بحسب صحيفة “ساوث تشابنا مورننغ بوست”، التي زارت عدداً من المواقع في مدينة جوادر الباكستانية، التي من المفترض أن تكون الصين منهمكة في تطويرها. وتقول الصحيفة إن موقع المطار الجديد، الذي كان من المفترض أن يكتمل بتمويل صيني قبل أكثر من ثلاث سنوات، مجرد منطقة محاطة بسياج وأشجار صغيرة ورمل ملوّن.
لم تُشيّد المصانع بعد على امتداد شاطئ الخليج الجنوبي للمطار. في حين لا تزال حركة المرور في ميناء جوادر خاملة ذات أرصفة محدودة، في ما ترسو فرقاطة تابعة للبحرية الباكستانية في الميناء، وهي السفينة الوحيدة التي رست هناك، ولا توجد إشارة على الشحن الأسبوعي الوحيد المقرّر من كراتشي.
ووفقاً لبيانات حكومية، تم الانتهاء من أقل من ثلث المشاريع التي أعلن عنها الممر، التي تصل في إجمالها إلى 19 مليار دولار أميركي.
وتقول الصحيفة إن باكستان قد تتحمّل الكثير من اللوم، ربما لأنها أبطأت مراراً أهداف البناء بسبب نفاد الأموال، فقد حصلت على خطة إنقاذ بقيمة 6 مليارات دولار أميركي من صندوق النقد الدولي العام الماضي، وهو القرض الثالث عشر للبلاد منذ أواخر الثمانينيات. وجدير بالذكر، أن اثنين من رؤساء الوزراء المتعاقبين في البلاد سُجنا بتهمة الفساد، وفُتحت شهية جيش تحرير بلوش في وطن منفصل في إقليم بلوشستان.
على طول “الحزام والطريق”، تعمل الصين على تقليص طموحاتها، ليس فقط في باكستان ولكن في جميع أنحاء العالم. تباطأ نموها الاقتصادي إلى أدنى معدل في ثلاثة عقود، والتضخم آخذ في الارتفاع، وتشعر البلاد بآثار الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. تزداد الصورة قتامة، حيث يهدّد وباء فيروس كورونا الذي نشأ في وسط الصين بالتسبّب في مزيد من التأخير والتخفيضات. يقول جوناثان هيلمان، كبير زملاء مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، إن “أكبر عائق أمام بكين الآن هو اقتصادها”.
في عدد من البلدان، أُلغيت مشاريع أو تقلّصت أو دُقّقت. وبحسب “ساوث تشابنا مورننغ بوست”، أعادت ماليزيا التفاوض بشأن شروط إنشاء خط سكة حديد تبنيه الصين، وألغت 3 مليارات دولار من خطوط الأنابيب المخطط لها. في كينيا، أوقفت محكمة العام الماضي بناء محطة طاقة كهربائية بقيمة ملياريّ دولار أميركي تموّلها بكين. وفي سريلانكا، قال قادة جدد إنهم يريدون استعادة السيطرة على ميناء في هامبانتوتا تم تأجيره لشركة صينية لمدة 99 عاماً عندما لم تستطع الحكومة السابقة سداد قرض. أثار هذا الاستحواذ القلق في العديد من بلدان “الحزام والطريق” من أن سخاء الصين يأتي مع خطر التخلي عن البنية التحتية الحيوية، وزاد من الحذر بشأن سعر المديونية للصين. ويقول مركز التنمية العالمية، ومقره واشنطن، إن ما لا يقل عن ثماني دول، بما في ذلك باكستان، في خطر كبير من ضائقة الديون.
كل ذلك يمكن أن يؤدي إلى جلاء مئات المليارات من الدولارات مقابل ما يقدّر بنحو تريليون دولار أميركي من الإنفاق على “الحزام والطريق”، وفقاً لتقرير شركة “بيكر ماكنزي” للمحاماة في سبتمبر (أيلول) الماضي. في حين زادت قيمة المشاريع الموقّعة العام الماضي، وأظهرت بيانات من وزارة التجارة الصينية أن الإنفاق الفعلي توقف عند 75 مليار دولار أميركي في عام 2019 بعد انخفاضه 14 في المئة في العام السابق. وتُبيّن الأرقام الحكومية أن إجمالي الإنفاق منذ بداية 2014، بعد وقت قصير من إعلان الرئيس الصيني عن المبادرة، بلغ 337 مليار دولار أميركي حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، وهو ما يقل كثيراً عن أهداف بكين الطموحة.
قد تكون باكستان نذيراً بمشاكل أكبر، وفقاً لهيلمان، الذي يدير “إعادة ربط آسيا”، وهو مشروع يتابع تقدّم “الحزام والطريق”، ويقول “هذا هو المكان الذي يبدو أن بقية المبادرة تسير فيه، المشروع لم يمت، لكنني متشكّك في ما إذا كانت الصين ستكون قادرة على تحقيق ما تعتزم القيام به”.
“جوادر” ستكون مركزاً اقتصادياً جديداً لباكستان
لكن نصير خان كاشاني، رئيس هيئة ميناء “جوادر”، أكد لـ “ساوث تشابنا مورننغ بوست”، أن “كل شيء على ما يرام. لقد شعرت (كوسكو) – أكبر شركة لنقل البضائع الجافة في الصين وواحدة من أكبر مشغلي الشحنات الجافة في جميع أنحاء العالم- بالإحباط بسبب مشاكل في نظام الجمارك على شبكة الإنترنت، ولكن تم حلها”، بحسب قوله.
من جانبه، رفض تشانغ باو تشونغ، رئيس شركة الموانئ الصينية القابضة لما وراء البحار، التي تدير الميناء ومنطقة التجارة الحرة، الاعتراف بوجود خمول واضح في نشاط ميناء جوادر، عاقداً مقارنة بين الوضع الحالي للميناء وما كان عليه قبل أربع سنوات عندما وصل إليه للمرة الأولى. بعد ذلك، كانت هناك رحلة واحدة فقط في الأسبوع إلى جوادر، مع عدد قليل من الناس عليها. يقول زانغ “كان انطباعي أن العالم كله أهمل تماماً هذا المكان. شعرتُ أن هذه كانت مهمة مستحيلة.”
ويجادل تشانغ بأن الصين ضخّت 250 مليون دولار أميركي في تجديد الميناء، بما في ذلك الرافعات الجديدة لتفريغ البضائع، ومركز أعمال، ومصنع لتحلية المياه والتخلص من مياه الصرف الصحي. ويضيف “أصبح هذا الميناء الآن عقدة في الشحن الدولي. بالطبع، حجم البضائع ليس كبيراً بما يكفي. بحلول عام 2030، نعتقد أن جوادر ستكون مركزاً اقتصادياً جديداً لباكستان وستكون أكبر مساهم في الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصاد الباكستاني”.
تم إنشاء منطقة تجارة حرة في جوادر في عام 2015، ويقول المسؤولون إن تسع أو عشر شركات، بما في ذلك شركة صينية لصناعة الصلب ومنتج باكستاني لزيوت الطعام، قد وقعت اتفاقيات. لكن لا توجد مؤشرات على تشغيل أي مصانع. هناك 30 هدفاً إضافياً مستهدفاً للمرحلة الثانية من المنطقة الحرة، الأقرب إلى موقع المطار الجديد، كما يقول المسؤولون إنه تم استثمار نحو 400 مليون دولار أميركي حتى الآن. لا تزال المناطق بحاجة إلى بنية تحتية حاسمة، بما في ذلك المياه والطاقة، وفقاً لموقع “CPEC”.
تنمية اقتصادية أم توسيع للنفوذ العسكري؟
كان الهدف من مشروع “CPEC” تقليل مسارات النفط والغاز من الشرق الأوسط بآلاف الأميال، وهي طريقة لقطع البر إلى غرب الصين بدلاً عن السير على بعد آلاف الأميال حول جنوب آسيا وجنوب شرقها عن طريق السفن. كان من المفترض أن تحصل باكستان على 2.3 مليون وظيفة وزيادة 2.5 نقطة مئوية في ناتجها المحلي الإجمالي. دعت الصفقة، التي تم التفاوض عليها من قبل رئيس الوزراء السابق نواز شريف، في بيان عام 2017 من قبل خليفته شهيد خاقان عباسي بعد سجن شريف بتهم الفساد، إلى أن يبدأ الممر في التبلور بحلول عام 2020. وقد وُصف المشروع بأنه رائد ونموذج لدول “الحزام والطريق” حول العالم.
وتريد باكستان، المتحالفة منذ فترة طويلة مع الصين لمواجهة الوزن الإقليمي للهند، المساعدة في تطوير إقليمها الغني بالمعادن، ولكن الأكثر فقراً واضطراباً. كما أرادت قمع الانفصاليين في جيش تحرير بلوش، الذين لم يهاجموا اللؤلؤة القارية العام الماضي فحسب، بل قتلوا أيضاً أربعة أشخاص في القنصلية الصينية في كراتشي عام 2018. كانت الجماعة المتشدّدة تسعى إلى إيقاف الخطط التي اعتقدوا أنها ستمكّن الحكومة الباكستانية من أخذ المزيد من الموارد من المنطقة، بدلاً عن مساعدة السكان. وأسفرت هجمات أخرى في الأشهر الأخيرة عن مقتل أكثر من عشرة جنود باكستانيين وأفراد أمن.
قد يكون للصين أهداف إلى جانب البحث عن طرق أفضل للنفط والغاز. لطالما كانت الحكومات الغربية قلقة من أن الإنفاق على “الحزام والطريق” يساعد بكين على تطوير ما يُعرف باسم “سلسلة من اللؤلؤ” – وهي موانئ يمكن استخدامها من قبل البحرية التابعة لها، من بحر الصين الجنوبي في بحر العرب إلى أفريقيا.
على الرغم من أن الصين وباكستان تنفيان أي نوايا عسكرية، فإن جوادر يمكن أن تكون نقطة توقف على الطريق من سريلانكا عبر جزر المالديف إلى جيبوتي، حيث بنت بكين أول قاعدة عسكرية لها في القرن الأفريقي. كما تشمل خططها للممر الباكستاني التنمية في مقاطعة شينجيانغ، حيث حاولت كبح الاضطرابات.
كفاية أولير
اندبندت عربي