شرّعت الأزمة الاقتصادية المالية في لبنان الأبواب على طروحات للتغيير في النظام السياسي خلال الأشهر الأخيرة، وأخذ العديد من الفرقاء يطرح أفكاراً جديدة وقديمة في شأن تعديل الصيغة السياسية التي يُحكم لبنان على أساسها.
وإذا كان من الطبيعي أن تطلق أزمة مالية لها وقع هائل على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، المطالبة بتغيير النظام، بدليل اندلاع الثورة الشعبية الشبابية في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي داعية إلى إسقاط الطبقة السياسية برمتها، فإن القوى الطائفية التي يستند إليها النظام اللبناني لديها ما تقوله في الدفاع عن نفسها، بعد اتهام قادتها بأن ممارستهم المحاصصة من أسباب الأزمة وتفرعاتها، فأخذ كل فريق طائفي يلقي اللوم على غيره في ممارسة الزبائنية والنفعية في السلطة وفي استنزاف الخزينة، لكن ارتباطات بعض الطوائف بجهات خارجية، معطوفة على تحالفاتها الداخلية، باتت عاملاً سياسياً مهماً في تفسير أسباب ما آل إليه الاقتصاد من تدهور، وهو ما يعيبه العديد من الفرقاء على “حزب الله” المسلح والمدعوم مالياً من إيران، والمنغمس في حروب المنطقة ولا سيما في الحرب السورية.
وبات الحليف الرئيسي للحزب، أي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون و”التيار الوطني الحر” بقيادة النائب جبران باسيل يتحملان جزءاً من التهمة بفعل هذا التحالف الذي أوصل عون إلى الرئاسة الأولى آخر العام 2016، ولمواجهة الحملة الإعلامية السياسية عليه يحصر التيار العوني أصل الأزمة بسياسات الحريرية السياسية منذ تبوأ الرئيس الراحل رفيق الحريري رئاسة الحكومة وصولاً إلى نجله سعد الحريري.
اصطدام التغيير بالاستقطاب الطائفي
إلا أن المطالبات بتغيير النظام أخذت أشكالاً متناقضة بعد انكشاف الأزمة الاقتصادية اللبنانية، بعضها كان له طابع ثوري استهدف الانتقال إلى دولة علمانية لا طائفية، وبعضها أخذ طابعاً طائفياً يهدف إلى إدخال تعديلات على التوازنات الطائفية القائمة، والبعض الآخر اقتصر على إدخال إصلاحات في النظام السياسي ومن داخله في شكل تدريجي بدءاً من إجراء انتخابات نيابية مبكرة وتعديل قانون الانتخابات، وإذا دلت هذه الأشكال المتناقضة للتوجهات التغييرية على شيء فإنها اصطدمت على الدوام بالحاجز الطائفي.
هكذا نُسبت الدعوات إلى العلمنة الشاملة إلى الأحزاب المسيحية التقليدية، باعتبارها تحدياً لأحزاب المسلمين الداعين إلى الاحتفاظ بالهوية الدينية في مجال قوانين الأحوال الشخصية، على الرغم من أن قوى يسارية تطرحها منذ عقود بقوة.
ونُسبت المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية إلى أحزاب وقادة المسلمين ولا سيما الشيعة، (نص على العمل التدريجي من أجل تحقيقها اتفاق الطائف) باعتبارها محاولة هيمنة على تركيبة المؤسسات الدستورية لأن الناخبين المسلمين أكثر عدداً من المسيحيين وبإمكانهم التحكم بهوية النواب المنتخبين وبالتالي بالأكثرية في السلطتين التشريعية والتنفيذية في ظل استمرار الاستقطاب الطائفي، وفي المقابل ترى القيادات النافذة عند المسلمين أن الزعامات المسيحية ترغب في استمرار النظام الطائفي للحفاظ على المناصفة في المؤسسات على الرغم من تناقص أعداد المسيحيين من أجل استعادة صلاحيات رئاسية قضى اتفاق الطائف بنزع بعضها وتوزيعها بين سلطتي مجلس الوزراء ومجلس النواب، ومع ذلك فإن الزعامات السنية من القيادات الإسلامية تميل إلى تصنيف الدعوة إلى إلغاء الطائفية السياسية في خانة تفوّق الثنائي الشيعي، أي “حزب الله” وحركة “أمل” في التأثير في الجمهور الواسع، نتيجة امتلاك الحزب السلاح ونجاحه في بناء دولة ضمن الدولة بفعل الدعم الإيراني الكبير.
وحده الجزء المتحرر من القيود الطائفية من الجيل الجديد الذي شكل وقود ثورة 17 أكتوبر، كان صادقاً في طروحاته العلمانية واللاطائفية، لكنه جوبه هو الآخر بقدرة الزعامات التقليدية على استنفار جمهور طوائفها، إلا أن هذا الجزء من جيل الشباب المتحرر من قيود الانتماء الطائفي لم ينجح حتى إشعار آخر في تشكيل أكثريات في الطوائف تتفوق على الولاءات التقليدية في استقطاب الجماهير.
مقاصد شعارات التغيير مرهونة بالمراحل السياسية
وأدت مخاوف السنوات الماضية من أن ينسف طرح أفكار التغيير في النظام، جوهر اتفاق الطائف في اتجاه توزيع جديد للصلاحيات، إلى توافق على اعتماد شعار “استكمال تطبيق اتفاق الطائف” بدلاً من تعديله، حفاظاً على صيغة التعايش بين الطوائف، وأكثر الزعامات التي سعت إلى تكريس هذه المعادلة هي القيادات السنية، ووافقتها عليه قيادات في الطوائف الأخرى من باب الخشية من أن يفتح تعديل الطائف أو نسفه الباب على صراع أهلي جديد يقوض التعايش الذي يتغنى به القادة اللبنانيون كنموذج فريد في العالم، إلا أن هذا التطبيق لاتفاق الطائف كان يصطدم في كل مرة بالخلاف على تحديد الأولويات: هل تطبق اللامركزية الإدارية (هناك اقتراح قانون في شأنها في البرلمان)، التي تشكل مطلباً للقوى المسيحية في شكل أساسي، مع توجه نحو توسيعها لتشمل الجانب المالي فلا تقتصر على الجانب الإداري، أم تتم المباشرة في إجراءات إلغاء الطائفية السياسية بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغائها ومهمتها تقديم اقتراحات إلى البرلمان؟ وهذا الخلاف أبقى الأمرين معلّقين.
وباستثناء طروحات انتفاضة 17 أكتوبر، غالباً ما ارتبط رفع بعض شعارات التغيير سواء كانت من أجل إدخال تعديلات على الطائف، والصلاحيات داخل السلطة، أو لأجل استبداله باتفاق جديد، بتأزّم ناجم عن تعارض الحسابات الداخلية في شأن علاقات لبنان الخارجية، وسياسات لبنان الرسمية حيال التطورات الإقليمية والدولية، وهكذا فرض الخلاف اللبناني على دور منظمة التحرير الفلسطينية ما بعد السبعينيات تقسيماً بين قوى الأمر الواقع خلال الحرب الأهلية، ثم انقساماً داخل السلطة التنفيذية في حقبة التدخل العسكري السوري.
أما اليوم، فإن تصاعد الصراع الأميركي الإيراني على الساحة اللبنانية أخذ يفرض حسابات دقيقة وحرجة على سائر الزعامات اللبنانية بالتزامن مع اشتداد التنازع على السلطة بين المكونات الطائفية، وعلى خلفية تبادل الاتهامات حول المسؤولية عن الأزمة المالية الاقتصادية غير المسبوقة التي يعيشها البلد، وتشكل الذروة التي بلغها الصراع الأميركي الإيراني عبر العقوبات الأميركية على إيران وتطال “حزب الله” ونفوذه في لبنان، نقطة تقاطع تتداخل فيها مخاوف كل فريق محلي من استضعافه بحكم الصراع الإقليمي الدولي، مع نزعة نحو تحصين موقع هذه الطائفة أو تلك إزاء ما يشهده الإقليم من تطورات متلاحقة ودراماتيكية.
وقائع الخلافات الداخلية تنتج “الفوضى السياسية”
ويبدو لمن يتتبع سياق الأحداث اللبنانية الداخلية بأنها محصورة بوقائع التناقضات الطائفية التقليدية، نظراً إلى تكاثرها دفعة واحدة في الأسبوعين الماضيين:
– النزاع على التعيينات المالية والإدارية وحصص كل طائفة والقوى السياسية المهيمنة فيها.
– عودة طرح الفيدرالية إلى العلن من قبل قيادات مسيحية، مع تفاوت درجة هذا الطرح بين هذه القيادات (بين اللامركزية الموسعة والفيدرالية)، والرفض الشيعي والسني والدرزي له، كل لسببه وبلهجة مختلفة، مع التحذير من عودة اتجاهات تقسيمية ظهرت خلال الحرب الأهلية أجهضها اتفاق الطائف.
– إعلان المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان نهاية الصيغة التي نشأ عليها لبنان، بما يترك مجالاً للتأويلات بأن البديل هو المثالثة بين المسيحيين والسنة والشيعة، بدلاً من المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، أو أن يكون البديل نسف المناصفة عبر الأكثرية العددية الإسلامية تحت عنوان إلغاء التمثيل الطائفي في البرلمان ثم في الحكومة.
– البعد الطائفي للخلاف على قانون العفو العام والذي يشمل مروحة من الحالات القانونية والسياسية، إذ لكل طائفة ما يهمها من عفو عن شريحة تنتمي إليها، بحيث يحتاج إلى موزاييك من حالات العفو يوازي بتعقيداته موزاييك الطوائف اللبنانية، ورافقت ذلك عودة الخلاف على ملكية أراض في منطقة جبيل بين الوقف الماروني وبين عائلات شيعية، وهو خلاف يشتد ويخبو منذ سنوات، على الرغم من حصول “تسوية” عقارية وقانونية له.
– الخلافات على الاستثمار في البنى التحتية لقطاع الكهرباء، إذ إن هناك تنازعاً مناطقياً حول بناء محطات توليد الطاقة في إطار أولوية الإصلاح في هذا القطاع كشرط للمساعدات الخارجية سواء في إطار برنامج “سيدر” أو في التفاوض مع صندوق النقد الدولي، سبقه خلاف حول المناطق التي يفترض بدء التنقيب عن النفط والغاز فيها والمصنفة طائفياً.
ويشبه تراكم كل هذه الخلافات على المواقع والنفوذ وغيرها، “الفوضى السياسية” خصوصاً أنها تعيق انكباب الفرقاء اللبنانيين على المعالجات المطلوبة للأزمة المالية الاقتصادية، بدليل مطالبة السفراء الغربيين المسؤولين اللبنانيين بالإسراع في القيام بما عليهم من خطوات إصلاحية، باعتبارها شروطاً حاسمة كي يتمكن المجتمع الدولي من مساعدة لبنان.
التبرؤ من العقوبات الأميركية على “حزب الله”
إلا أن خلف هذه “الفوضى السياسية” تقف العوامل الخارجية التي يمكن من خلالها أن تتضح أسباب تراكم الخلافات، ويضمر الفريق المتجه نحو الفيدرالية معادلة تقول إن الاضطرار اللبناني ولا سيما المسيحي عن طريق تحالف الرئيس عون وتياره مع الحزب إلى التعايش مع غلبة “حزب الله” على الساحة السياسية وفي السلطة كان مساهماً رئيساً في الأزمة الاقتصادية بفعل العقوبات وتوحيد الحزب لجبهات المواجهة مع واشنطن والغرب، وتعني الفيدرالية بما تعنيه من استقلالية مالية للمناطق، بالنسبة إلى هذا الفريق أن تنفق كل منطقة من المناطق ما تجبيه من ضرائب ورسوم وأرباح استثمارات في تلك المنطقة بدلاً من أن يكون هذا الإنفاق مركزياً وعلى مستوى لبنان ككل، وفي اعتقاد من يرون هذا التوجه أن كل منطقة نفوذ لبنانية تجد طريقتها للتعاطي مع الأزمة الاقتصادية المالية التي يمر بها لبنان، بدلاً من أن تتحمل مناطق معينة عبء خيارات مناطق أخرى على الصعيد الإقليمي.
وأكثر من ذلك، ترجَح كفة التقسيمات الفيدرالية ذات الطابع الطائفي في دول المنطقة التي تشهد صراعات داخلية وتقاسم نفوذ بين القوى الدولية والإقليمية، كما يحصل في العراق وسوريا وليبيا، مع الاتجاه نحو شيء من الحكم الذاتي للفلسطينيين بدلاً من قيام دولة مستقلة لهم، فلماذا يشذّ لبنان عن هذه القاعدة بعرف القوى الساعية إلى الفيدرالية أو إلى اللامركزية المالية؟ ولماذا لا يستميل بعض اللبنانيين الأميركيين طالما أنهم رعاة هذه الصيغ الفيدرالية في المنطقة؟
وتواكب الميول هذه محاولة ظرفية من أجل التبرؤ من موجبات التحالف مع “حزب الله” لتفادي الخضوع للعقوبات الأميركية المنتظر تزايدها مع بدء سريان قانون “قيصر” ضد سوريا الأسد ومن يتعامل معها، وهو ما يفسر ارتفاع اللهجة الانتقادية من بعض نواب “التيار الوطني الحر” للحزب، فالضغوط الأميركية تشتد على لبنان وبالتالي الفرقاء المتحالفين مع الحزب، داخل الحكومة وخارجها، مع تجديد واشنطن مطلبها بوجوب تشديد إجراءات قوات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان لمناسبة التحضير لمناقشة تجديد فترة انتدابها سنة أخرى بدءاً من أغسطس (آب) المقبل.
تحذيرات
لكن مقابل هذه الميول، صدرت التحذيرات من القيادات الشيعية، لاسيما رئيس البرلمان نبيه بري، من الفيدرالية، وكذلك من كتلة “المستقبل” النيابية ذات الأكثرية السنية، ومن رؤساء الحكومات السابقين، فالموقع السني في لبنان يخشى من تقويض دوره في التركيبة الحاكمة بين القوة الشيعية المسلحة والقوة المسيحية التي يمكن أن تكون مدعومة من الغرب على المدى الإستراتيجي، أما الرسالة الأقوى من الردود الشيعية فجاء عبر التهديد بإسقاط صيغة النظام اللبناني من المفتي قبلان.
ويبقي “التيار الوطني الحر” طموحاته تحت سقف استمرار التحالف مع “حزب الله” لإدراكه، وهو يسعى إلى التمايز عنه، بأنه ما زال محتاجاً غطاء السلطة المركزية في ممارسة نفوذه لدواع إقليمية، وهذا ما يفسر تقليل الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير من أهمية الخلاف مع “التيار الحر”.
وليد شقير
اندبندت عربي