سياسات الذاكرة والنسيان بين القرية والمدينة والخريطة

سياسات الذاكرة والنسيان بين القرية والمدينة والخريطة

لعل استدعاء الفلسطينيـ/ـة لتفاصيل الخروج من فلسطين، سواء بشكله الهوياتي الرمزي، أو القانوني الإجرائي، يحدث أول ما يحدث من خلال استعارة مكانية مركزية ومهيمنة في المخيال الجمعي الفلسطيني؛ وهي القرية، بما تحمله تلك الاستعارة من أشكال النوستالجيا الخطابية. والقرية هنا مكان رمزي، وبؤرة وجودية تعبر عن النكبة والاحتلال، وليست نقطة خروج فحسب، بل هي نقطة بداية وامتداد أيضًا. لكن في مواجهة مركزية الحداثة الغربية، المتمثلة في إسرائيل ومدنيَّتها الحداثية، انحسرت مضامين القرية في الفولكلور وتصاوير الأصالة القروية. في هذا الشكل الاستعاري، يصبح التماهي مع القرية ومضامينها الأدائية Performative شكلًا من أشكال استدعاء الوطن، ومقاومة استلابه، لكن هذا التماهي ومضمونه، هل يكفي – ولو خطابيًا – لتحويل تلك الذاكرة إلى شكل من أشكال التاريخ المؤطر للذاكرة الفردية والجماعية، وراسمًا لحدود الجماعة العضوية؟ يدفعنا هذا التساؤل إلى تأمل تلك العلاقة المركبة بين القروية والمدينية على محورين: الأول هو سياسات الذاكرة والنسيان في الحداثة؛ والثاني هو المسافة بين الذاكرة والتاريخ لأي جماعة من البشر، وهنا نتناول الجماعة الفلسطينية، كل ذلك في فضاء مكاني قائم على ثنائية المدينة والقرية الفلسطينية، وزماني خلال النكبة، وما تلاها.

يؤكد بول كونورتون في كتابه “كيف يغزو النسيان ذاكرة الحداثة” (2009) “أن الحداثة تعاني من مشكلة خاصة مع النسيان”، وهو نفس ما أشار إليه فريدريك جيمسون وإيريك هوبزباوم. فالحداثة، وفي قلبها سؤال الدولة الحديثة، تقوم على العديد من سياسات الذاكرة والنسيان، لتؤسس ممارستها الهوياتية، والتي تُدغم في الجسد والفكر الإنساني لأغراض طمس و/أو إظهار شكل ما معين من المسافات البينية والعلاقات الممأسسة. وفي حين أن “التذكر متعلق ضمنيًا بالجسد الإنساني” (كونرتون)، يمكننا فهم سياسات القرية والمدينة الفلسطينية والإسرائيلية كسياسات ذاكرة ونسيان حداثيّة في صلب الدولة الحديثة. وما نخلص إليه أن الدولة الحداثية الإسرائيلية التي قامت على طمس الجسد الفلسطيني (بالنكبة وغيرها) حولت ذاكرته أيضًا إلى جسد مطموس معلق في الهواء، وهي نفس النتيجة التي حدثت للجسد والذاكرة الفلسطينيين، بتحول مطالبات التحرر إلى مطالبات قانونية لدولة فلسطينية.

الخروج الجسدي للفلسطيني من مكانه الجغرافي والتاريخي، دفع به إلى استدعاء شكل تاريخي لوجوده الجماعي Gemeinschaft يقاوم به حالة التذرر التي تسببت بها النكبة. صحيح أن الذاكرة مثل العقل، فردية وليست جماعية، لكنها وبمرورها وتمظهرها وتداولها والتعبير عنها من خلال اللغة، هي اجتماعية وزمنية، أي إنها واللغة حادثتان زمنيتان، وبالتالي فهي بالضرورة تاريخية وجغرافية وجسدية. وعليه، فهذا الشكل من التذكر إنما يقوم بترسيم حدود الجماعة الفلسطينية ضمن حدث الطرد المكاني. بكلمات أخرى، ساهمت استعارة “الخروج من القرية” في النكبة في خلق جماعة قروية فلسطينية، تمارس تذكرا جماعيا لتحمي حدودها وتوزع أدوار أعضائها (من هنا مثلًا جاءت تسميات وتوزيعات أحياء المخيمات في الشتات بحسب القرى والعوائل والحمائل، في نصوص مكانية سردية). وإن جسدية الطرد حدثت من القرية، لأن الأجساد الفلسطينية ترسمت داخل تلك الاستعارة القروية.

“الذاكرة بعد انفراط عقد الجماعة هي أيديولوجيا”، هكذا يقول عزمي بشارة، ونضيف أنها استعادة لمكانية وزمانية ما فقدتها، وهي في الحالة الفلسطينية استعادة مرتبطة عضويًا بفضاء القرية وأجساد أهلها. صحيح أن القرى الفلسطينية أزيلت بغرض مدّ حداثة استعمارية إحلالية، لكننا في استدعاءاتنا لفضاء القرية نحن لا نستدعي تلك القرى باعتبارها جزءا من حداثة فلسطينية مستلبة، ولا حتى جزءا من ثنائية القرية والمدينة الفلسطينيتين معًا، بل نعيد فصلها عن باقي جغرافيا الجسد الفلسطيني القروي والمديني، معًا.

بعبارة أخرى، عندما نتحدث عن القرية الفلسطينية (فضاء الخروج) ضمن سياق هوياتي انبنى على المواجهة الحديّة، فنحن نمارس، في زخم هذا التذكر، شكلًا من أشكال النسيان تجاه ذواتنا ومكاننا. فكل مكان هو نتاج عمليات طويلة من الممارسة والعمل، وأي هوية مكانية يجب أن تكون حادثة بالشكل التداولي مع تاريخ العمل والعيش والحركة الجسدية في المكان، وليس موقعه الآني، ونعني موقع الطرد والخروج في زمنية النكبة. هذا الفيتش في مركزية الخروج من القرية، وخلع صفات متعالية على التاريخ لذلك المكان، لهو أساس عملية نسيان القرية/المكان الفلسطيني من خلال افتراض نقائه.

نحن نستدعي القرية دونًا عن المدينة الفلسطينية، وبالتالي فكل أشكال استدعاءاتنا الذاكراتية كفلسطينيين منقطعة عن سياق حداثة مديني، وكأننا هُجّرنا فقط من القرى. هذا الاستدعاء يطمس المدينة، ويؤسس لسيرورة واحدة مهيمنة من سرديات الطرد، وصلت أحيانًا لوصف أي مساءلة لمركزية القرية كاستعارة، تنازلًا عن الأصالة والفولكلور، أو نسيانًا للاقتلاع والتشريد، أو في الجهة المقابلة، قوبل أهالي المدن النازحة بأشكال عنصرية مقابلة تهدف لترسيم حدود القرية المحافزة أو الرجعية أو المتخلفة، والمدينة المنفتحة المتفلتة والمتحررة.
إن استعارة القرية كنموذج حاكم لحدث النفي/الطرد/الطمس خارج المكان الفلسطيني في النكبة، إنما حبس المكان الفلسطيني (القرية) ضمن أشكال استعادة تجرّده من تاريخية العمل فيه، وتلقي عليه شكلًا هوياتيًا جوهرانيًا متجاوزًا لعلاقته التاريخية السابقة على النكبة والتالية لها، بل جعل القرية وكأنها عالم طوباوي شاعري، وتلك ثيمة النوسطالجيا بكل الأحوال، لكنها خلقت نموذج الفلسطيني الضحية النقي، ما جعل استعادة المكان هي فقط ممارسة خالية من الألوان، أي أنها حدثت بالأبيض والأسود فقط، بكل رمزيتهما المباشرة. كما أنها باتت مقيدة في شكل وحيد من الأدائية Performative وهي الفولكلور، وهو ما جعل محاولات كتابة التاريخ الفلسطيني تختلط مع الجهد الاستشراقي في تدوين المأكولات والمشروبات والأمثال الشعبية والرقصات، وأحاديث وطرف السكان قديمًا، حتى أن التاريخ الشفوي، والحكاية، وقع في كثير منه إلى مقاربات كتلك.

ومن هنا، نرى أهمية خلق مصدر معرفي ذاكراتي، قادر على ترسيم حدود الجماعة وإعادتها إلى مسار زمني ومكاني آني. ما لم يحدث ذلك، فإن تاريخانية المدن الفلسطينية التي استلبتها الحداثة المدينية الإسرائيلية، وقيدتها خارج زمن الحداثة الإسرائيلي، كما هو الحال مع يافا مثلًا وغيرها مما سمي لاحقًا بـ “المدن المختلطة”، ستبقى حبيسة نسيان مضاعف؛ الأول طمسًا مباشرًا وماديًا بالاحتلال، والثاني بشكلٍ رمزي، كما فعلت استعارة القرية المركزية المهيمنة.
يافا التي يُنظر إليها باعتبارها “الحي العربي القديم” التابع لمدينة تل أبيب، هي مثال عن سيرورة “المدن المختلطة” على مستوى الخطاب والأدائية من الناحيتين، فلسطينيًا وإسرائيليًا، في الأولى: المدينة ليست من ممارسات الذاكرة الاستعادية للنكبة والخروج ولا حتى المقاومة؛ وفي الثانية هي الحي الآتي من غياهب التخلف والماقبل حداثي في مقابل حداثة إسرائيل. تلك الثنائية تقفز عن تاريخ المدينة وفرادتها الثقافية والحداثية – كما هي حيفا أيضًا – هي لا ترد في ذاكرتنا الجماعية كشكل من أشكال الخروج والنكبة والفقد، وليست مركزية كما هي القرى. وهذه المفارقة استدعت الكثير من صور التشظيات، ولعل أكثرها تجليًا هو محاولة التماهي مع الحداثة المدينية الإسرائيلية؛ “لقد سلبنا الاحتلال المدينة الواقعية، والممكنة والكامنة فيها، وليس القرية فحسب” (عزمي بشارة).

تُذكَر في هذا السياق محاولات تأريخ مقاومة المدن الفلسطينية، كيافا وحاميتها العسكرية، وهي دراسة صادرة حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن مشروع توثيق تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية. لقد شكّلت المدينة الفلسطينية، ويافا كنموذج لها، “مشكلة” سياسية، ما دفع بالمؤسسة الإسرائيلية إلى تكثيف استراتيجياتها لجهة التطويق والرقابة والسيطرة عليها. فعادة ما يصف أعضاء المجتمع العربي في يافا أنفسهم كـ “أقليّة مزدوجة” يجري إقصاؤها مرتين: الأولى على المحور القوميّ من قبل مؤسسات الدولة؛ والثانية على مستوى السلطة المحلية. في غياب قيادة موحدة، وعمليات تجريف واستهداف للطبقة الوسطى في المدينة التي تضمن دينامية المجتمع العربي، في مواجهة نسب الجريمة المرتفعة والمخدرات الموجهة من قبل المؤسسة الإسرائيلية، هذا على الناحية الإسرائيلية، ماذا عن الفلسطينية.

إن مراوحة الذاكرة الفلسطينية بين فولكلور مفقود وذاكرة طقوسية، أو حتى “فرجوية” (كالتاريخ الكنعاني مثلًا، “نتفرج” عليه كفلسطينيين من خارجه) لا يمكن تذكرها، في مواجهة الميثولوجيا الصهيونية التي حولت ذاكرات فردية وجمعية (وليست جماعية) متناثرة عبر أوروبا وروسيا إلى تاريخ جامع، يحاول ترسيم حدود جماعة متخيلة، وتحويلها (من خلال مؤسسة الدولة الحديثة) إلى جماعة عضوية، لقادر على أن يفسح المجال لتسويات سياسية على حساب ذاكرة لم تبرأ (بعد) من الظلم والغبن، ولا تكفيها الدولة الفلسطينية كإجابة.

بتلك المقاربة يمكننا تفهم غياب أي مشروع وطني يمكنه حل سؤال الحداثة، وإخراج الفلسطيني/ ـة من فخ ثنائية أصالة ومعاصرة، دون كل هذا النسيان والطمس الذي أصبح حادًا للدرجة التي منعت محاولات إكمال الحداثة، والالتحاق بسياقها، ولو على مستوى الإجراء، وليس فقط الثقافة التي باتت مختزلة في الفولكلور؛ ليس فقط تمسكًا بالجذور، وهذا حقنا، ولكن ارتدادًا عن مفهوم الحاضرة والمدينة العربية، ومن هنا بدأت مظاهر ترييف المدينة.
صحيح أن الأمر ليس منوطًا فقط بالحالة الفلسطينية، ولكنه كذلك مُصاب المدن العربية التي باتت أنظمتها السياسية مأزومة ومتهالكة، وأكثر من ذلك، تمزقت مدنها وروحها التعددية لصالح نص سردي مديني واحد مهيمن، بقوة السلاح أو السياسة والمال، أو جميعها معًا، حتى أن المدينة الفلسطينية باتت تستدعي أشكالًا استهلاكية قائمة على القروض والماركات، وحتى أن ذلك الاستهلاك بات شكلًا من أشكال النسيان المدفوع ثقافيًا، والذي يتعزز بواسطة توقيت الاستهلاك؛ استهلاك ذاكرة النكبة، وكأن النكبة أو الطلقة الأولى أو يوم الأرض أو غيره نستعيده استهلاكيًا فقط.

ثم تأتي أداة أخرى للهيمنة الحداثية، وهي الخرائط، والتي بها بدأنا نفقد مدننا وقرانا على حدٍ سواء.
أشار ميشال دو سارتو إلى الفرق بين خط السير والخريطة، باعتبارهما من الممارسات المكانية: الأول يقوم على التذكر والاشتباك؛ والثانية على الطمس والتكثيف، وحتى النسيان. فقد تحولت مقاربة العودة والنكبة إلى ممارسة خرائطية، تجعل المكان الفلسطيني حدثًا، وليس سيرورة تاريخية، لذا فمقاربات كبير المفاوضين الفلسطينيين للحق الفلسطيني تقوم على القرب أو البعد، والتقسيم الخرائطي لمفهوم الوطن، بعد تحويله إلى ممارسة قانونية تفاوضية، لا تحتكم إلا إلى البراغماتية. إلى أن صرح رئيس السلطة الفلسطينية يومًا بأنه سيزور صفد، وأنها جزء من دولة إسرائيل، فصفد بالنسبة له خريطة يجري التفاوض عليها، لا أكثر لا أقل.

لقد تخلصت الخريطة بشكلها الإجرائي القانوني (كما في المفاوضات وحلبات القانون الدولي)، من العلامات الذاكراتية التي انبثقت من ذاكرة اليومي والجمعي المعاش للفلسطيني وامتداده في التاريخ. تحول المكان الذاكراتي إلى خط وحدّ، كما اختزلت “البلاد” على اتساعها إلى قرى متناثرة، متخلّين عن مدننا وحداثاتها. يكفي هنا أن نتساءل إذا عدنا إلى فلسطين؛ إلام نعود؟
يكفي إجابة على هذا التساؤل المر تأمل المعالجات اللونية التي نشرت أخيرًا لصور فوتوغرافية من النكبة 1948، لعل فداحة اللون تضيء ما لم نره بعد!

عبدالله البياري

العربي الجديد