غالباً ما تتّضح ديناميات الأمن الدولي في آسيا الوسطى عبر “اللعبة الكبرى” المرافقة للمنافسة بين القوى العظمى، لكنّ هذه الفكرة المختصرة تخفي التعقيدات التي يسببها تورط تلك القوى في المنطقة، ربما يصعب استيعاب طبيعة المنافسة القائمة جزئياً لأن الدول الإقليمية المستقلة تستطيع التأثير، ولو بدرجات متفاوتة، على أسلوب البلدان المجاورة القوية في استعمال النفوذ في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية.
اليوم، تبدو المصالح الروسية والصينية في آسيا الوسطى متباعدة على نحو متزايد، لكن بدل التنافس صراحةً، يشدد البلدان دوماً على الجهود الرامية إلى استرضاء بعضهما، ومع ذلك قد تؤدي النزعات الشائعة في الالتزامات العسكرية الصينية في المنطقة إلى اضطراب التوازن الصيني الروسي الذي ترسّخ في العقود الأخيرة.
في تحليل جديد لحجم الوجود الأمني الروسي والصيني في منطقة آسيا الوسطى، يثبت برادلي غاردين، باحث في مركز “ويلسون”، وإدوارد ليمون، أستاذ مساعِد في كلية “دانيال مورغان” للدراسات العليا، أن الصين كثّفت مبيعات أسلحتها وتدريباتها العسكرية المشتركة بدرجة هائلة مع أن نطاق القطاع الأمني الروسي في المنطقة لم يتراجع، فهما يستنتجان أن روسيا والصين لن تعتبرا تحركات كل طرف منهما عدائية تجاه الطرف الآخر على المدى القصير، لكن قد يضطرب تعايشهما في هذه المنطقة في ظل تنامي الدور الأمني الصيني.
نظراً إلى تاريخ الاتحاد السوفياتي في آسيا الوسطى، لطالما اعتبرت روسيا هذه المنطقة جزءاً من نطاق نفوذها، فهي القوة الوحيدة التي تقدّم ضمانات أمنية رسمية لدول آسيا الوسطى بموجب “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، كما أنها تحافظ على شبكة من القواعد وأنظمة الرادارات في أنحاء المنطقة.
تتفوق روسيا اجتماعياً وسياسياً على الصين في آسيا الوسطى، فربما تجاوزت الصين الهيمنة التجارية الروسية هناك، لكنّ الروابط اللغوية والثقافية التي نشأت خلال الحكم السوفياتي الطويل تعطي روسيا تفوقاً بارزاً بفضل روابطها الإعلامية القوية وعلاقتها بالعمال المهاجرين.
بدأت الصين في مرحلة متأخرة تبذل الجهود لمعالجة المشاعر الإقليمية المعادية لها، علماً أنها كانت السبب في اندلاع الاحتجاجات في كازاخستان وقيرغيزستان خلال السنة الماضية، وقد كتب الباحث سيباستيان بيروز حديثاً في صحيفة “ذا دبلومات” أن جهود بكين لبناء روابط ثقافية وتخفيف مظاهر معاداة الصين لم تكن فاعلة مع أنها نجحت في نشر لغة الماندرين، لكنه لا يظن أن فشل جهودها في استمالة الرأي العام في آسيا الوسطى قد يُصَعّب تنفيذ الالتزامات الصينية في المنطقة.
بفضل مشروع “مبادرة الحزام والطريق” الضخم الذي انطلق في 2013، تفوقت الصين على روسيا وأصبحت الشريكة التجارية الأولى في المنطقة، ومن المتوقع أن تتوسع هذه الهيمنة الاقتصادية في المراحل المقبلة.
تثبت أبحاث غاردين وليمون أن حصة الصين في سوق الأسلحة في آسيا الوسطى ارتفعت من 1.5% من واردات الأسلحة بين العامين 2010 و2014 إلى 18% في السنوات الخمس الأخيرة، وحتى الآن لم تؤثر تلك المبيعات على حصة روسيا في السوق، فقد بقيت بمستوى 60% تقريباً في السنوات العشر الأخيرة، لكن قد يتغير هذا الوضع إذا استمرت النزعة الصينية التصاعدية.
صحيح أن روسيا تقود حتى اليوم أكبر عدد من التدريبات العسكرية المشتركة في آسيا الوسطى، لكن يشهد عدد التدريبات الصينية ارتفاعاً مستمراً، فمنذ أن أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ في 2015 أن الدبلوماسية العسكرية ستكون ركيزة أساسية للسياسة الخارجية الصينية، أجرت الصين عدداً متزايداً من التدريبات الثنائية، بالإضافة إلى تدريبات أخرى في إطار “منظمة شنغهاي للتعاون” التي تقودها بكين.
يوضح ليمون: “في ظل توسّع الدور الصيني في أمن آسيا الوسطى، قد تشعر روسيا في مرحلة معينة بأن نطاق نفوذها يتعرض للهجوم، وبما أن روسيا هي القوة العظمى الأقل قدرة على الصمود على المدى الطويل، فقد تتردد في مواجهة الصين مباشرةً أو ربما تقرر تكثيف جهودها لحث الحكومات على إلغاء اتفاقياتها مع الصين”.
يشدد إطار المنافسة القائمة على قوة إرادة القوى العظمى، لكنه يقدّم فرصاً قيّمة للدول المستقلة التي تحاول تلك القوى التأثير عليها، ويضيف ليمون: “بنظر حكومات بلدان آسيا الوسطى، قد تكون المنافسة المتوسّعة بين القوى الخارجية مفيدة لأنها تسمح لها بوضع الشركاء الخارجيين في مواجهة بعضهم”.
الشرق اليوم