بروفيل سياسي: جماعة كولن بتركيا.. دولة خفية أم رؤية حداثية للإسلام؟

بروفيل سياسي: جماعة كولن بتركيا.. دولة خفية أم رؤية حداثية للإسلام؟

3767

يُلقبه الغربيون بـ”مارتن لوثر” الإسلام، ويراه أنصاره “غاندي” تركيا، في حين يتهمه خصومه بأنه “خميني” أنقرة، وبينهم تتأرجح سلسلة ألقاب أخرى لـ”فتح الله كولن” منها زعيم “الكماليون الجدد”، تثير حيرة أوساط سياسية واجتماعية داخل تركيا وخارجها حول المشروع والأهداف الحقيقية لجماعته.

وزاد من تلك الحيرة تصاعد حلقات الصراع بين جماعة كولن وحكومة رجب طيب أردوغان، وما ينتج عنها من تأثير ليس فقط على مستقبل الإسلام السياسي في تركيا، بل على المشهد السياسي بأكمله، في ظل أصوات ترى أن جذور الصراع السياسي في تركيا بين العدالة والتنمية وجماعة كولن تعود إلى ما يُسميها البعض “الدولة الخفية” التي تسعى للقضاء على الحزب والجماعة معًا.

جذور ممتدة

سهّلت “اللبرلة” الاقتصادية والسياسية أثناء إدارة تورجوت أوزال في ثمانينيات القرن الماضي في ظهور “سوق دينية” في تركيا، فتنافست الطرق النقشبندية (الصوفية) وجماعة كولن وحركة الرؤية الوطنية السياسية التابعة لأربكان حول معنى الإسلام، ودوره الصحيح في المجتمع التركي.

وامتدت جذور جماعة كولن، المسماة بـ”الخدمة”، إلى حركة “نور” التابعة لسعيد النورسي (1873- 1960) المشهور بمؤلف “رسائل النور” الذي يقول إن الجهاد بالسيف صار في ذمة التاريخ، وإننا الآن في مرحلة الجهاد بالكلمة، أي المحاولة العاقلة للتوفيق بين العلم والعقلانية وبين الإسلام.

وأعاد كولن تشكيل حركة “النور” للنورسي باسم الإسلام التركي، وابتعد عن تركيز النورسي على التحول الفردي، وركز على المجال العام، وعلى تحويل الإسلام إلى شبكات إسلامية ورأسمال اجتماعي.

صراعات النفوذ:

وتنشط جماعة كولن في تحقيق الانسجام بين الإسلام والنصرانية واليهودية تحت راية “الديانات الإبراهيمية” وتشرف على عدد من المنتديات الخاصة بالحوار الديني، وهناك شبكة من المنتديات تعمل على نشر رؤية كولن للإسلام. وتشمل شبكة نفوذ الجماعة؛ القطاع التعليمي وفيه أبرز مشاريعها حيث تدير 1000 مدرسة في أكثر من 100 دولة، وجامعة الفتح في إسطنبول.

وفي قطاع الصحة، يرتبط بالجماعة مستشفيات ذات صيت وشهرة، ويكفي أن يُوضح ارتباط ألفي طبيب من بين 200 ألف طبيب في إسطنبول نفوذها في هذا القطاع وحده.كما يمتد نفوذ جماعة كولن إلى النشاط الإغاثي عبر وكالة الإغاثة “كمسي يوك مو”، التي تدير أكثر من 16 مليون دولار سنويًّا للإغاثة من الكوارث حول العالم.

وفي قطاع الإعلام هناك منظمات إعلامية وصحفية بارزة للجماعة أبرزها، صحيفة “زمان” واسعة الانتشار، وصحيفة “توداي زمان” اليومية الناطقة بالإنجليزية، ومجلة إخبارية أسبوعية باسم “أكسيون”، ومحطتا التلفاز “سامنيولا: درب اللبنانة”، و”مهتاب: البدر”، بجانب محطة “إيبرو” الناطقة بالإنجليزية.

وترتبط جمعية الكتاب والصحفيين بجماعة كولن، وتدير الجمعية عددًا من منابر الحوار بينها منبر “البنت” غربي تركيا لمناقشة المشاكل الوطنية والدولية، وتملك دور نشر كبيرة أيضًا. ويرتبط بجماعة كولن أيضًا منبر الحوار الأوروبي الأسيوي، ويضم ممثلين من تركيا، و12 دولة من الاتحاد السوفيتي سابقًا، و”أسيا” وهو منبر حوار للثقافات، وينظم لقاءات “للديانات الإبراهيمية” في تركيا، وروسيا، وجورجيا، وألمانيا، والسويد.

وتدير الجماعة عددًا من أكبر دور النشر في تركيا وخارجها، بجانب جمعيّات ومنتديّات لرجال الأعمال. وعشرات المواقع الإلكترونيّة، تنشر مقالات ومؤلفات وأخبار كولن بـ22 لغة، كما تتضمن ممتلكات الحركة وكالة أنباء باسم “جيهان”، ومؤسسة مالية إسلامية هي “بنك أسيا”، وشركة تأمين باسم “إيسيك سيجورتا”.

وبالإضافة إلى الداخل الوارد من النشر والإعلام والمشروعات المالية التي لها صلة بحركة كولن، يأتي التمويل من تبرعات الداعمين بمن فيهم رجال الأعمال الأتراك الأغنياء، وأحد هؤلاء المتربعين يمتلك شركة “أولكر”، إحدى أكبر المشروعات في قطاعات الطعام في تركيا وخارجها، وكذلك فإن صحيفة “زمان” مملوكة لـ”علي أكبولوت” وهو أحد كبار صناع النسيج في تركيا.

تباين الرؤى والمشاريع

يطرح كولن نفسه كصاحب مشروع الإسلام الاجتماعي المعتدل، المنفتح على الحوار مع الأديان الأخرى، وهو يختلف مع التيار الأربكاني في نقطتين رئيسيتين؛ فنجم الدين أربكان ينظر إلى أمريكا والغرب نظرة عدائيّة، ويعتقد أن اللوبي اليهودي هو المتحكّم في القرار الأمريكي، بينما يرى كولن أن أمريكا والغرب قوى كبرى، لا بدّ من التعاون معها. وينظر أربكان وحزبه إلى كولن على أنه نموذج “الإسلام المتأمرك” الذي يُناسب مصالح أمريكا.

وثانيًا يركز كولن على الجانب القومي، بينما أربكان يعتبر وحدة العالم الإسلامي ضرورة ملحّة، وأسس في هذا السياق “مجموعة الثمانية الإسلاميّة”. بينما ينظر كولن إلى منطقة القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى والبلقان على أنها المجال الحيوي لتركيا.

شبكة متسعة

وحركة كولن ليس لها تنظيم رسمي، وليس لها هيكل هرمي، وإنما هي شبكة دعم متسقة متراخية من الدوائر المحلية. فالعطاء المالي هو عنصر أساسي يجمع بين أنصار حركة كولن الذين يقدمون التبرعات بمعدل يتراوح بين 5 إلى 10 إلى 20% من الدخل السنوي لهم.

وهناك مجموعة صغيرة من رجال الأعمال تُقدم مساهمات أكثر من 20%، بما في ذلك تقسيم البعض أرباحه السنوية إلى 3 أجزاء، يعود الثلث للعمل، والثلث للمعيشة، والثلث الثالث لدعم مشروع خدمي أو أكثر .

وهناك أسباب عديدة للخلافات الحالية القائمة بين حركة كولن وحكومة حزب العدالة والتنمية المحافظ بزعامة أردوغان؛ إذ عملت هذه الحركة على توسيع نفوذها في أجهزة الدولة وربما أكثر بكثير مما تسمح لها به الحكومة. وفي الوقت نفسه لا تتكوّن حركة كولن فقط من العاملين في المدارس والكوادر الإدارية، بل أيضًا من رجال أعمال يرغبون في جني المزيد من الأرباح من ثمار الدولة، أي من المناقصات والأشغال الحكومية ومن تخصيص الأراضي لغرض البناء، أو كذلك من برامج دعم التجارة الخارجية. وهذا يعني أنَّ هناك الكثير من الثروة التي يمكن توزيعها، وحول هذه الثروة اختلف الطرفان أيضًا إلى حدٍّ ما.

والصراعُ على النفوذ الذي سبب شرخًا في الشراكة الاستراتيجية بين الجماعة وحكومة أردوغان تصاعد مع بدء الانشقاق بينهما، والذي برز للسطح عام 2010 خلال أزمة السفينة التركية “مرمرة” خلال توجهها لكسر الحصار على غزة، وفي ذلك الوقت، قال كولن إن “الجانب التركي هو المخطئ لأن مرمرة لم تحصل على إذن إسرائيلي لدخول غزة”، واصفًا ذلك بـ”التعدي على الشرعية”.

بعد أحداث مرمرة، عين أردوغان هاكان فيدان أكثر المقربين إليه، على رأس جهاز الاستخبارات خلفًا لسلفه الذي كان متهمًا بالتعاون مع الموساد الإسرائيلي، ولكن جماعة كولن رفضت ذلك، ووظفت قوتها للإطاحة به، من خلال كشف المفاوضات السرية التي أجراها فيدان في أوسلو مع قيادات حزب العمال الكردستان ليتم اتهام فيدان بالتفاوض مع أعداء الوطن ولكن أردوغان تدخل وأنقذ فيدان من المحاكمة، وعزل عددًا كبيرًا من الأمنيين والمدعين العامين، ونقل عددًا آخر إلى خارج المحافظات الرئيسية، كان معظمهم محسوبين على جماعة كولن.

وتصاعد الخلاف بين العدالة والتنمية، وجماعة كولن التي تطلق عليها الحكومة التركية “الكيان الموازي” بعد ما يمكن تسميته تأميم المدارس التابعة لكولن الأمر الذي رفضه الأخير وقال عبارته الشهيرة: “إنهم يريدون غلق أبواب الجنة”.

ويشير منتقدو كولن وجماعته إلى فيديوهات أحاديثه التي يدعو فيها إلى العمل ببطء، إلى أن يحين الوقت لـ”تغيير النظام”، ويرونها تشير لمخطط السيطرة على المجتمع والدولة التركية من جانب جماعة سرية، في حين لا يوجد برهان قوي يثبت وجود تلك المخططات رغم أن الحركة تلتقي مع حزب العدالة والتنمية في السعي لاستبدال النموذج الكمالي العلماني المتصلب بمزيجًا جديدًا يُفسح صدره أكثر للدين دون السعي لإقامة دولة إسلامية.

تداعيات الصراع:

لقد خلق أتباع حركة كولن ما يُعَدّ فعليا دولة داخل الدولة التركية، ورسخوا وجودهم بقوة في الشرطة والقضاء والجهاز البيروقراطي للدولة، ولكنهم ينكرون ذلك بشدة. ويعتبر كولن، أن الترويج لذلك يهدف إلى التشويش على التحقيقات التي تجريها الشرطة التركية بشأن قضايا فساد تطال أقطابا كبيرة في نظام العدالة والتنمية.

على الصعيد القريب، لا تبدو خسارة أردوغان كبيرة بشأن الانتخابات التركية المبكرة التي يسعى إليها حزب العدالة والتنمية بعد أن فقد الأغلبية المطلقة؛ حيث تُشير كل استطلاعات الرأي التي أُجريت بعد الانتخابات الأخيرة أن الحزب سيستعيد تلك الأغلبية، وذلك بعد تغير في النوايا التصويتية من صوتوا لصالح الأكراد.

كما أن إحصاءات أجراها حزب العدالة والتنمية أكدت أن نسبة الناخبين التابعين لجماعة كولن من إجمالي الناخبين الأتراك لا تتجاوز 3%، في حين تشير إحصاءات أخرى إلى أنها قد تصل إلى نسبة 8 %.

أما على المدى البعيد فإن الطرفين خاسران إذا استمرت عمليات تكسير العظام بين الجماعة والحزب، ولكن بدرجة أكبر حزب العدالة والتنمية الذي يشهد صراعًا داخليا على الصعيد التنظيمي، والأيدلوجي.

فهناك ما يشبه الانقسام بين طرف يصنف في خانة الحمائم مثل عبدالله جول، رفيق درب أردوغان وما ظهر بينهما من خلافات علنية تضمنها كتاب “١٢ عاما مع عبدالله جول”، من تأليف أحمد سافار، مستشار الرئيس التركى السابق، الذى يرصد ما سماه “انتفاضة القصر الرئاسى” من خلال عرض لمعاناة “جول” من الخدمة والعمل مع أردوغان والمرارة التى حاول أن يلعقها عدة مرات، حرصاً على علاقته مع صديق عمره.

وعلى الصعيد الأيديولوجي هناك نزوع من جانب مجموعة أردوغان داخل الحزب للابتعاد عن التعددية والليبرالية ويبرز ذلك من خلال تعامله مع وسائل الاعلام، الأمر الذي يجعل هذا الصراع هو الريشة التي سترسم ملامح الشهد السياسي في تركيا في الأونة المقبلة.

مصادر:

1- The Muslim Martin Luther, Fethullah Gulen Attempts an Islamic Reformation ,By Victor Gaetan,foreign affairs,  February 2, 2014 .

2- Meet Fethullah Gülen, the World’s Top Public Intellectual, ADMIN AUGUST ,foreign policy, AUGUST 4, 2008.

3- “صعود الإسلام السياسي في تركيا”، أنجيل “راباسا وإف” و”ستيفن لاربي” لصالح مركز “راند” الأمريكي، ترجمة إبراهيم عوض، مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى، بيروت، 2015.

4- حركة كولن تحليل سوسيولجي لحركة مدنية جذورها الاسلام المعتدل، هيلين روز ايبو، ترجمة مروة يوسف، مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى، بيروت، 2015.

5- أركنه: هذه جذور الصراع السياسي في تركيا بين “كولن” و”أردوغان”، صحيفة زمان التركية، يوليو 2014.

6- مقابلة حصرية مع فتح الله كولن ثاني أقوى رجل في تركيا نفوذا، موقع بي بي سي بالعربية، يناير 2014.

7- تركيا.. صراع بين الحكومة والجماعة، إسماعيل ياشا، الجزيرة.نت، 2013.

8- تركيا: جماعة كولن في مقابل حزب العدالة والتنمية.. التجاذبات الداخلية والدولية، طلال جامل، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، تونس، مارس 2014.

أيمن حسونه

المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية