العلاقة الأمريكية العراقية إلى أين؟

العلاقة الأمريكية العراقية إلى أين؟

المفاوضات الأمريكية العراقية، حاسمة لرسم مجالات وحدود ومستويات العلاقة بين العراق والولايات المتحدة، وهي علاقة حتى الآن غير واضحة، وغير محددة في الالتزامات لطرفي العلاقة، على الرغم من وجود اتفاقية الإطار الاستراتيجي بينهما. المباحثات بين الجانب العراقي والجانب الأمريكي، للبحث في تفعيل وتطوير الاتفاقية سابقة الذكر، كما قال عنها وزير خارجية الولايات المتحدة الامريكية، حوارها سيكون مصيريا وحاسما ويحدد مستقبل العراق، ربما لمديات مقبلة بعيدة.
على ما يظهر تريد الولايات المتحدة، استثمار ما يمرّ به البلد من ظروف اقتصادية قاهرة، لتحقيق إنجاز ما، يجيّر لصالح دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية، في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل من جهة، ومن الجهة الثانية وهي الأهم والدافع الأساس لهذا الحوار، بل هي الأخطر، تثبيت الوجود العسكري الأمريكي الدائم على ارض العراق، ربما لمديات بعيدة مقبلة.
حكومة مصطفى الكاظمي الانتقالية، ولدت ولادة قيصرية، وهي إلى الآن حكومة ناقصة لم تكتمل كابينتها الوزارية بعد، وتحيط بها الأزمات والخوانق الاقتصادية، وتشتت وتوزع المواقف والولاءات للأحزاب والكتل السياسية الفاعلة في العملية السياسية، فهي:
– جاءت بضغط أمريكي، وقبول إيراني، قبول مرّ، أي قبول على مضض، لانعدام الخيارات الأخرى.
– التوقيت الأمريكي للمفاوضات، توقيت مبيّت، توقيت ذكي جدا، في ظرف اقتصادي يمرّ به العراق صعب للغاية، وفي ظرف أمني قلق بسبب نذر عودة عصابات الإرهاب.
– إن موقف الحكومة العراقية، موقف غير موحد، وغير واضح في تحديد موقف العراق من هذا الحوار. الدكتور انتوني كروزدمان، كبير خبراء مركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن، وفي ندوة حوارية مع الدكتور ستيفن كوك من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، وصف الحكومة العراقية، بأنها حكومة أشباح. كذلك فإن السفير الأمريكي في العراق في اجتماع له مع مسرور بارزاني، قال للأخير؛ بأن كردستان سوف تشارك في المباحثات. من جهته، مسرور بارزاني، شدد على أهمية حفظ حقوق المكونات العراقية في أي اتفاق بين الجانبين العراقي والأمريكي. السفير الأمريكي طمأنه، بأن الولايات المتحدة سوف تعمل على حفظ حقوق جميع المكونات.. وهذا يعني ببساطة وبكل وضوح، أن الولايات المتحدة، وعبر سفيرها وقواعدها المنتشرة على أرض العراق، ستكون ظلا فعالا وموجها للسياسة الداخلية والخارجية للعراق.

المفاوضات العراقية الأمريكية، تجري في ظروف قاسية لتحقيق هدف استراتيجي لوجود عسكري أمريكي دائم في العراق

هناك سؤالان مهمان أولا، هل أن المفاوضات تجري على أساس تثبيت الوجود الأمريكي؟ أو تثبيت العلاقة الأمريكية العراقية على أسس ثابتة وبعيدة المدى، وتتضمن التزامات متقابلة، ومحددة الأهداف على أرضية قانونية، وعلى بنود تتكافئ فيها الالتزامات ـ من وجهة نظري، لا توجد علاقة كهذه بين دولة عظمى وأخرى من العالم الثالث، تتكافئ فيها الفرص، بل هي سيف مغروز في قلب الاستقلال. يحضرني هنا، قول لجمال عبد الناصر؛ إن الصداقة بين دولة كبيرة ودولة صغيرة كالصداقة بين الذئب والحمل.
ثانيا، هل المفاوضات تجري على أساس، أم ان الهدف منها هو مساعدة العراق في محاربة الإرهاب، إلى أن يتم القضاء النهائي عليه، ومساعدة الحكومة في إجراء الغصلاحات، وما إليها من انتخابات مبكرة ونزيهة، كما يقول ويردد الأمريكيون، كذبا وخداعا في كل ساعة وحين. وكما وصفها مؤخرا السفير الامريكي في بغداد ماثيو تودلر. ومناقشة وجودهم الوقتي لهذا الغرض، أي ان يكون هناك تعهد باتفاق مكتوب بخروجهم حال انتهاء مهمتهم. وهذا أمر غير وارد في مباحثات من هذا النوع، بالمطلق وبكل تأكيد. السفير الأمريكي وصف المباحثات، بأنها مباحثات استراتيجية، لتثبيت وتطوير اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة، وفتح الباب امام الشركات الامريكية للاستثمار في العراق، في البنية التحتية.. وامام الوكالة الامريكية للتنمية الدولية، التي يصفها جون بير كنز في كتابه «اعترافات قاتل اقتصادي»، بأنها اقذر أداة امريكية للسيطرة على الدول التي تفتح أبوابها لها، لنهب ثرواتها. في الدراسة للمجموعة المستقلة لدارسة مستقبل العراق، التي ترأسها رايان كروكر السفير السابق في العراق (والدراسة منشورة في اليوتيوب) والتي تم تقديمها غلى ترامب في عام 2017 للعمل بها، لمعالجة الوضع في العراق، نلاحظ التالي: يجب أن تعمل الإدارة الأمريكية على توفير المستلزمات القانونية، لوجود أمريكي في العراق، وجود طويل الامد. أن تعمل الإدارة الأمريكية مع الحكومة العراقية، على نقل صلاحيات الحكومة المركزية إلى الاقاليم، ويختصر عمل الحكومة في بغداد على الإشراف، أي أقلمة العراق. العراق مهم للأمن القومي الأمريكي على المدى الطويل. يجب على الإدارة الأمريكية، العمل على إجراء انتخابات حرة ونزيهة، ينتج عنها، برلمان وحكومة، يتمتعان بالشرعية، ودعم وإسناد الشعب (كلمة حق يراد بها باطل). أن تعمل الإدارة الأمريكية على تشجيع الحكومة العراقية بالانفتاح على دول الخليج العربي، في التجارة وما إليها.. والابتعاد عن إيران. أن تعمل الإدارة الأمريكية، على دفع الحكومة العراقية، على زيادة التجارة مع الأردن، وتصدير النفط والغاز عبرها، حتى يستفيد حليفنا الأردني.
ضمت المجموعة خمسة عشر عراقيا من مجموع 65، القسم الأكبر منهم يحملون الجنسية البريطانية والأمريكية، من بينهم؛ كنان مكية، ورند الرحيم، وليث كبه، الاول تربطه علاقة حميمة مع مصطفى الكاظمي الذي اشرف على مؤسسة «الذاكرة العراقية» التي أسسها كنعان مكية، قبل الغزو الأمريكي للعراق، وأثناء الاحتلال.. هنا علينا، وفي الصدد هذا؛ أن نعرف جيدا، أن أي رئيس إدارة امريكية لا يختلف عن غيره، كلاهما وجهان لعملة واحدة، وأن السياسة الامريكية في خطوطها العامة، تؤطرها هذه الدارسة وغيرها، سواء من مؤسسات الدراسات والبحوث الاستراتيجية، في البيت الأبيض، وفي وزارة الدفاع، وفي الخارجية، وفي المجلس الاطلنطي الذي تولى رعاية ودعم وتمويل هذه الدراسة التي أشرنا لها.. وفي مؤسسات الدراسات والبحوث المستقلة، وهي ليست مستقلة لارتباطها، تمويلا ودعما واسنادا من الشركات الامريكية العملاقة (الحكومة الأمريكية العميقة، حكومة شركات).
هناك صعوبة بالغة في المفاوضات، فهي وكما أسلفنا، مختارة بعناية أمريكية فائقة، في غاية الخبث، لتحقيق هدف استراتيجي لوجود عسكري أمريكي دائم، في قاعدة عسكرية كبرى، تغطي بنشاطها ليس العراق فقط، بل كامل المنطقة. هذه الظروف القاسية لم تكن ابنة اليوم، بل هي ابنة سبعة عشر عاما من الفساد، وسوء الإدارة، والفشل الذريع في بناء مؤسسات الدولة، وفي التنمية، وفي الخدمات، وفي الصناعة والزراعة، وفي بناء جيش قوي يعتمد عليه، تسليحا وتدريبا وعابر للطائفية والإثنية، بإعادة الخدمة الإلزامية التي تنصهر فيها جميع ألوان الطيف العراقي، التي لم يجر العمل بها، والغريب لا يوجد سبب واحد لعدم إعادتها، إلا إذا افترضنا الضغط الأمريكي باستخدام أدواتها من داخل العملية السياسية، في عدم إعادة الخدمة الإلزامية، وغيرها من الذي يدخل في تقوية الجيش.
الموقف الأمريكي بالتأكيد، أقوى من موقف الحكومة العراقية، إذا افترضنا جزافا أن الحكومة العراقية الحالية، جادة في إيجاد طريق ما لإخراج القوات الامريكية المحتلة من أرض العراق، وبناء (شراكة متكافئة) مع الجانب الأمريكي. أما لماذا الموقف الأمريكي هو الأقوى؟ فلأن الأمريكيين، إذا لم يحصلوا على ما يرمون إليه من هذه المفاوضات وحدثت القطيعة، فإنهم سوف يُفعّلون الأوراق التي هي في حوزتهم، في الاقتصاد والمال والنقد، والعصابات الإرهابية، والأنكى من كل هذا، هو إحداث شرخ كبير في الجغرافية السياسية للعراق، أي إحداث شرخ كبير في كتلة المجتمع العراقي. الإيرانيون يقولون، وعلى لسان أرفع شخصية في قمة هرم السلطة في إيران، إن الايرانيين سيعملون على إخراج القوات الأمريكية من العراق وسوريا، وسيطردون الأمريكيين. هذا القول لا يدعمه الواقع الذي هو شكل آخر، فيه من الضعف اكثر مما فيه من القوة والقدرة، مما يؤدي كضرورة تفرضها حركة الواقع الضاغط لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، الذي قامت بصناعته الولايات المتحدة خلال سبعة عشر عاما بصورة غير مباشرة، ولكنها فعالة، بالتشجيع غير المباشر، على إنتاج الحكومات العراقية المتعاقبة، على أسس طائفية وإثنية، عبر أذرعها من داخل العملية السياسية، حتى أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه، والذي قاد إلى تفجير الوضع، بانتفاضة شعبية عارمة، أوصلت الكاظمي إلى رئاسة مجلس الوزراء. بهذه الطريقة، وبغيرها من الطرق الأخرى الساندة والداعمة لهذا التوجه في السياسة الامريكية في العراق، عملت الولايات المتحدة، على تنمية هذا الوضع السيئ للغاية، وترسيخه على الأرض حتى باتت عملية تغييره، في زمن قصير ومحدد، عملية مستحيلة. يبقى زمن الحوار، الذي سوف يلعب دور جنرال الحرب بين الطرفين، حسب مقتضيات ظرف الواقع، طولاً أو قصرا.

مزهر الساعدي

القدس العربي