انسحاب أمريكي من سوريا.. هل تنتهي «الاستراتيجية الكبرى»؟

انسحاب أمريكي من سوريا.. هل تنتهي «الاستراتيجية الكبرى»؟

«لن نبقى في سوريا للنهاية، والانسحاب قرار سياسي»، تصريح جديد يرسم ملامح ومحددات الدور الأمريكي المستقبلي في المنطقة، ويصدر هذه المرة من مسؤول أمريكي عسكري رفيع، هو الجنرال ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأمريكية الوسطى للجيش الأمريكي.
حديث ماكنزي، يؤكد أن قرار ترامب بالانسحاب سيتم تنفيذه وإن تأجل، ولعل داعي التأجيل هو ترتيب وضع آمن لحلفاء واشنطن الأكراد في شمال سوريا، فبين تركيا والنظام السوري، يقبع الأكراد بحماية أمريكية لا يبدو أنها ستتواصل، وسيتجه الأكراد، على الأغلب، لإنجاز تسوية مع بشار الأسد تمنحهم قدرا ما من الحقوق الذاتية، مع عودة سيطرة دمشق على مواقع مركزية فقط، وما يساعد النظام السوري على ذلك، هو الضغط المتواصل على الأكراد بحصول انسحاب أمريكي، ينسجم مع توجهات مراكز الفكر والسياسة الأمريكية، لتقليص تواجدها في الشرق الاوسط الذي بات مكلفا ومنهكا.
ومن أبرز ما صدر من تلك التوجهات، هو مقال معمق في مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية نشر قبل شهرين، عنوانه «نهاية الاستراتيجيات الكبرى»، كتبه ثلاثة من الأكاديميين الأمريكيين البارزين وهم، دانييل دبليو دريزنر أستاذ السياسة الدولية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية، رونالد كريبس أستاذ العلوم السياسية في جامعة مينيسوتا وراندال شويلر أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج دراسة السياسة الخارجية الواقعية بجامعة ولاية أوهايو. وهم مساهمون في دليل أكسفورد للاستراتيجية الكبرى، الذي حرره تييري بالزاك ورونالد ر. كريبس.
يبدأ المقال بعنوان لافت يطلب من أمريكا أن تفكر بطريقة تناسب تراجع نفوذها America Must Think Small، ويشرح الخبراء الثلاثة كيف تراجعت هيمنة واشنطن مقابل نظام عالمي متعدد الاقطاب، بل الأهم، أن الأقطاب الجديدة والدول العظمى الصاعدة، لم تعد هي أيضا قادرة على فرض هيمنتها، أمام صعود التنظيمات المسلحة والجماعات المحلية، التي انتزعت لنفسها مساحة في خريطة القوة، ولعل أهم ما يفسره الخبراء هو المعنى الجديد للقوة، الذي لم يعد مقتصرا على القوة العسكرية التقليدية التي تملكها الدول العظمى.

«لن نبقى في سوريا للنهاية والانسحاب قرار سياسي» تصريح جديد يرسم ملامح ومحددات الدور الأمريكي المستقبلي في المنطقة

الصين وإيران، كانتا من الدول التي أشار لهما الخبراء الثلاثة، بقدراتهما على التعطيل والإعاقة، فيتحدث التقرير عن قدرات «منع الوصول التي تتبعها الصين في تقنيات الحرب الإلكترونية والأسلحة المضادة للأقمار الصناعية – بهدف رفع المخاطر على القوات الأمريكية العاملة في غرب المحيط الهادئ». كما أنهم يعتقدون أن إيران تفعل الشيء نفسه في الخليج الفارسي، «باستخدام الغواصات والصواريخ المضادة للسفن والألغام المعقدة، في محاولة لجعل المنطقة منطقة محظورة على القوات البحرية الأمريكية». ويفسر الخبراء الثلاثة ذلك بالقول: «أصبحت القوة تتعلق بالقدرة على التعطيل والحظر والتعطيل والاعتراض والتدمير، أكثر من القدرة على البناء والتمكين والإصلاح والبناء». والهدف كما يظهر هو جعل تكلفة الوجود الأمريكي باهظة، ومكلفة، فتضطر للتراجع وإخلاء الساحة، خاصة انها لم تعد راغبة بخسارة آلاف الجنود كما يشير التقرير: «القوى العظمى اليوم مصممة على فعل شيئين أكثر من أي شيء آخر: الثراء وتجنب المغامرات العسكرية الكارثية»، كما يشير في مكان آخر إلى أنه «بالنظر إلى التكاليف الباهظة للحرب، فإن القوى العظمى التي لا يمكنها حل نزاعاتها حول طاولة المفاوضات، لم يعد لديها خيار – على الأقل إذا كانت عقلانية – لتسويتها في ساحة المعركة».
ولعل اهم ما يخص منطقتنا في هذه التقرير المطول، الذي يبدأ بالحديث عن الطاقة ولا ينتهي، عن مشاكل وحدة الأمة الامريكية، وصعود الخطاب الشعبوي، هو الحديث عن منازعة المنظمات المسلحة والميليشيات للدول الكبرى في النفوذ، وصعود الجماعات العرقية والمتمردة، وكيف أنها أعادت تعريف معنى القوى، إذ يقول الكتاب الثلاثة، إن جماعات العنف من غير الدول لم تعد لاعبا ثانويا، وإن الجماعات العرقية، وأمراء الحرب، والإرهابيين، والميليشيات، والمتمردين، كلهم يعيدون تعريف القوة في جميع أنحاء العالم». ليخلص أساتذة السياسة الثلاثة إلى أن القوى العظمى التقليدية بدأت تفقد هيمنتها أمام منافسين جدد من أقطاب جديدة صاعدة، وقوى إقليمية ومحلية، ومنظمات مسلحة وميليشيات عابرة للحدود، ويعلقون على ذلك بالقول إن «الكلاب الكبيرة فقدت قوتها «عضتها»: the top dogs have lost their bite.

وائل عصام

القدس العربي