قررت الحكومة اللبنانية تشكيل خلية أزمة برئاسة وزير المالية، غازي وزني، تكون مهمتها متابعة تطورات الوضعين المالي والنقدي وتطبيق القرارات، على أن تجتمع مرّتين في الأسبوع، وتكليف وزارة العدل الطلب من النائب العام التمييزي إجراء التعقبات بشأن ما أحدث التدنّي في سعر النقد الوطني.
مقررات الجلسة الاستثنائية التي عقدها مجلس الوزراء اليوم برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون، تلت وزيرة الإعلام، منال عبدالصمد، أبرز مقرّراتها التي شملت أيضاً الطلب من الأجهزة الأمنية التشدّد في قمع جميع المخالفات واحالتها فوراً على المراجع القضائية المختصّة تمهيداً لاتخاذ الاجراءات القانونية بحق المخالفين، ولا سيما مصادرة العملات الاجنبية التي يثبت انها شكلت موضوع تلك الجرائم.
كما أكد مجلس الوزراء على أهمية سلامة النقد وسوف يتخذ جميع التدابير التي من شأنها ترتيب المسؤولية الواجبة في حال إخلال كل ملتزم بما تعهد به.
جلسة المجلس عُقدت استثنائياً اليوم على دفعين قبل الظهر وبعده، إثر عودة التحرّكات الشعبية إلى الشارع اللبناني بزخمٍ كبيرٍ اعتباراً من أمس الخميس، مع ارتفاع سعر صرف الدولار وتسجيله مستويات قياسية غير مسبوقة حتى في زمن الحرب الأهلية، ليسجل 6 آلاف ليرة خلال اليومين الماضيين، فكانت المواجهة المباشرة مع محال الصيرفة التي اعتصم أمامها عدد كبير من المحتجين في مختلف المناطق، وسارت مجموعات باتجاه “مصرف لبنان” المركزي ومقارّ البنوك وفروعها التي تعرّض عدد منها لعمليات تكسير وحرق واعتداء كردة فعل غاضبة نتيجة استمرار البنوك في احتجاز أموال المودعين الدولارية.
ورفع المحتجون في شوارع بيروت والمناطق لافتات تدعو إلى إسقاط حكومة الرئيس حسّان دياب العاجز، برأيهم، حتى اللحظة عن تحقيق إصلاحات جذرية قادرة على انتشال البلد من أزمته الاقتصادية والمعيشية الكارثية، وإعادة الثقة إلى نفوس الناس والمستثمرين بُغية النهوض مجدداً، مطالبين بإقالة حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، الذي يعتبرون أنه ساهم بالانهيار على كافة المستويات بالتعاون والشراكة والتضامن مع السلطة السياسية المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الأهلية.
الحراك الغاضب والمستمرّ في الساحات حتى تحقيق المطالب، هو ما دفع رئيس الحكومة حسان دياب إلى إلغاء مواعيده اليوم وعقد جلستين متتاليتين لمجلس الوزراء؛ الأولى في السراي الحكومي والثانية في القصر الجمهوري بصفة طارئة، لبحث الأزمة النقدية والملفات المعيشية والطريقة الأنسب لضخّ الدولارات في السوق من أجل وضع حدّ لتفلت الدولار، ولا سيما في السوق السوداء، فكان البحث شاملاً على الصعيد السياسي والمالي والمصرفي والصيرفي وحتى الأمني، استكمالاً لحملات المداهمة والتوقيف التي تقوم بها الأجهزة الأمنية بحق تجار العملة والصرافين المضاربين غير الشرعيين.
عون: ما يحصل ليس عفوياً
وقال رئيس الجمهورية ميشال عون في مستهل جلسة مجلس الوزراء التي عقدت في قصر بعبدا إن “ما حصل الخميس نتيجة ارتفاع سعر الدولار من دون أي مبرر يجعلنا نتساءل عما إذا كان الرقم الذي أُعطي لسعر الدولار هو شائعة تم تعميمها لينزل الناس إلى الشوارع وتقع المواجهات؟ وأشار إلى أن “الخبراء أكدوا أنه لا يمكن للدولار أن يقفز خلال ساعات إلى هذا الحد. وهذا ما يُبعد العفوية عن كل ما حصل، ويؤشر لمخطط مرسوم نحن مدعوون للتكاتف لمواجهته”. بدوره، قال رئيس الحكومة حسان دياب إن “البلاد لم تعد تحتمل خضات… المطلوب إجراءات قاسية لوضع حد لأي شخص أو جهة تلجأ إلى هذا الأسلوب”.
وبرز موقف لرئيس مجلس النواب نبيه برّي، من قصر بعبدا، أعلن فيه، بنتيجة اجتماع عُقد مع رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب، الاتفاق على تخفيض قيمة الدولار إزاء العملة اللبنانية وصولاً إلى 3200 ليرة، ابتداءً من أمس، على أن تظهر النتائج أكثر يوم الإثنين المقبل. كما اتُفق، بحسب برّي، على هذه الإجراءات خلال جلسة الحكومة في السراي، مشيراً إلى أنه تم الاتفاق أيضاً على مخاطبة “صندوق النقد الدولي” بِلُغة واحدة وبرعاية المجلس النيابي.
وفي معرض رده على المطالبة بإقالة سلامة واحتمال لجوء الحكومة إلى إجراء كهذا لكسب ثقة الشارع المنتفض، قال برّي: “نحن بحاجة اليوم إلى كل الناس لا الاستغناء عنهم”.
وبلهجة متناغمة مع تصريحات برّي، أشار رئيس “تيار المستقبل”، سعد الحريري، إلى أن التهويل بإقالة سلامة هو “جنون اقتصادي وسياسي ودستوري سيذبح الاقتصاد اللبناني من الوريد إلى الوريد”، معتبراً أنهم “يبحثون عن مخرج لإنقاذ أنفسهم من شرّ قراراتهم وأفعالهم، وليس عن حل لإنقاذ الاقتصاد ووقف تدهور الليرة”.
وقال في تغريدة على “تويتر”، إن “عهداً وحكومة يقودان اللبنانيين إلى المجهول بتحويل الاقتصاد رهينة تصفية الحسابات السياسية. ذهنية كيدية وانتقام تبحث عن كبش محرقة لامتصاص غضب الناس المحق وصرخات الجوع من كل المناطق”.
أزمة ثقة عميقة
كبير الاقتصاديين في “مجموعة بنك بيبلوس” نسيب غبريل، قال في حديث لـ”العربي الجديد”، إن هناك أزمة ثقة عميقة أدت إلى حصول أزمة السيولة التي نعيشها، وهي بدأت أواخر عام 2017 عندما أقرّت السلطتان التشريعية والتنفيذية زيادة الضرائب عشوائياً على الاستهلاك والدخل والأرباح والأموال المنقولة، إضافة إلى رفع كلفة الرسوم على معاملات الدوائر الرسمية في وقتٍ كان الاقتصاد يعاني بشدّة، الأمر الذي أدى إلى إعادة توزيع ضخمة للدخل من القطاع الخاص والعائلات والأسر إلى القطاع العام، حيث بدأ شحّ السيولة يظهر في الأسواق التجارية، مثل تأخر الدفع لتاجر الجملة ومنه إلى المستورد والأخير إلى شركات الاستيراد.
ويضيف غبريل أنّه “مع انعقاد مؤتمر سيدر، في إبريل/ نيسان 2018، قُدّمت الكثير من الحوافز للسلطات اللبنانية من أجل تنفيذ الإصلاحات المزمنة والمتفق عليها، لكن التأخير الذي حصل دفع ببعض حاملي سندات اليوروبوندز (ديون دولارية) للخروج من السوق اللبناني. وعام 2019، فقد المغترب اللبناني ثقته بالدولة وعمد إلى سحب أمواله من المصارف المحلية نتيجة غياب الجدية في إجراء الإصلاحات وبقاء البلد من دون حكومة لمدة 9 أشهر في ظل استمرار المناكفات السياسية وزيادة الضرائب على الودائع وغياب شفافية الاستثمار. ومن ثمّ فقد المواطن اللبناني المقيم ثقته بالسلطة والقطاع المصرفي في أواخر عام 2019، فتسارعت أزمة الثقة بين القطاع الخاص والحكومة، قبل أن تتحول إلى أزمة ثقة بين القطاع الخاص والمواطن من جهة والسلطة التنفيذية والأحزاب من جهة أخرى”.
ويشير كبير الاقتصاديين في “بيبلوس” إلى أن الانتفاضة اللبنانية دعت، في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، الحكومة إلى إجراء إصلاحات جدية، الأمر الذي لم يحصل في عهد حكومة الحريري، كما لم تقدم عليه حكومة دياب، لا بل اتخذت قرارات أدت إلى تبخّر ما تبقّى من ثقة، الأمر الذي انعكس على سوق الصرف وتالياً تسبب بأزمة السيولة.
ويلفت إلى أن “المواطن اللبناني والقطاعين الخاص والمصرفي كما الاغترابي والمجتمع الدولي توقعوا جميعاً أن تطرح الحكومة الحالية مشروعاً إنقاذياً يؤدي إلى إحداث صدمة إيجابية في الأسواق اللبنانية تُعيد الثقة التي تبدأ معها عملية ضخّ السيولة تدريجاً لتخفيف الأزمة، بيد أن تدابير مجلس الوزراء أدت إلى ردة فعل عكسية تماماً”.
ويكشف غبريل أن “مؤشر بنك بيبلوس لثقة المستهلك” في مارس/ آذار الماضي تراجع إلى أدنى مستوى في 7 سنوات، ثم هبط في إبريل/ نيسان أكثر إلى مستوى لم يسجل منذ بدء احتساب البنك المؤشر في يوليو/ تموز 2007، نتيجة قرارات الحكومة التي لم تكن في مكانها الصحيح، في ظلّ عدم لمس أي تغيير في نهج الحكم، ولا سيما على صعيد الإصلاحات التي يمكن ترجمتها ميدانياً.
أبعد من المضاربة والتهريب
من جهته، يعتبر الخبير الاقتصادي والمالي جاد شعبان، في حديث مع “العربي الجديد”، أنّ المشكلة بالأساس هي هيكلية لناحية ارتفاع سعر صرف الدولار وليست مرتبطة فقط بالمضاربة وتهريب الدولار إلى الخارج، حيث “إننا أمام طلب على العملة الخضراء يفوق العرض، فأساس المشكلة هو اقتصادي”. ويضيف أنه “عندما تراجعت التحويلات على المصارف، والمداخيل التي تأتي بالدولار سواء من السياحة والتصدير والمساعدات الخارجية، هذه عوامل أدت كلها إلى تقليص حجم كتلة الدولار، مقابل ازدياد الطلب على الدولار نظراً لأن لبنان يستورد أكثرية البضائع والمواد والسلع والناس تقدم أيضاً على الاستثمار بالعملة مثل الذهب من خلال تجميعها”.
ويصف شعبان المشهد بقوله “إننا أمام وضع سياسي أمني متفلت دفع الناس إلى التهافت على شراء الدولار من الصرافين بشكل لم نره سابقاً، وفي أول أيام انتفاضة 17 أكتوبر كان الارتفاع محدوداً في سعر الصرف، واقتصر الطلب على التجار والمستوردين قبل أن تنضم إليهم اليوم فئات شعبية تريد أن تخزّن الدولار في المنازل”.
ويرى الخبير الاقتصادي والمالي أن “السوق السوداء ساهمت في رفع سعر الصرف، وهي تقوم بعمليات لها علاقة بتبييض الأموال وشحن العملات إلى بلدان أخرى، أبرزها سورية، وغيرها من التجارة غير المشروعة، لكن في الوقت نفسه المشكلة تكمن بألا أحد في الدولة يعلم ما هي نسبة كتلة الدولار الموجودة في السوق، بعكس حال العملة الوطنية، باعتبار أن مصرف لبنان يطبعها، في ظلّ رفض لجنة الرقابة على المصارف والمصرف المركزي إجراء حصر تام لموضوع الصرف والدولار الموجود خارج القطاع المصرفي ونظام مصرف لبنان”.
ويتابع قائلاً إن “هذا كلّه، في وقت يرفض الصرافون المرخصون التعامل مع المنصة الإلكترونية، فهم يسعون دائماً لهامش بالتعاطي خارج الأطر الرسمية علماً أنهم ملزمون من لجنة الرقابة على المصارف بتقديم تقارير أسبوعية عن حجم التداول بالدولار وألا تسحب رخصة مزاولة العمل منهم، وهذا ما لم يطبق ويدلّ على أن هناك نوعاً من التسامح من جانب السلطات المالية تجاه الصرافين بشكل عام”.
ويحذر من أن “هذا التعاطي يدعم بطريقة غير مباشرة السوق السوداء، حتى أن الحملات الأمنية والقضائية عادت وساهمت لاحقاً التحقيقات في إخلاء سبيل الموقوفين في ملف التلاعب بسعر الصرف ومخالفة تعاميم مصرف لبنان”.
وعليه، يستخلص شعبان، أن “هناك أزمة بنيوية تكمن في غياب الدولار من السوق والتحويلات بالعملة الخضراء التي تغطي الطلب الموجود، خصوصاً بعد حجز أموال المودعين الموجودة في المصارف وتحويل الدولارات إلى عملة لبنانية لا قيمة فعلية لها في السوق. وهذه العوامل أدت إلى تفاعل الأزمة وارتفاع سعر الصرف مقابل ارتفاع الطلب في سورية، حيث يُقال إنه بسبب تهافت التجار على شراء الدولار تحسباً من العقوبات الأميركية بهدف تجميع الدولارات وتخزينها، لكن للأسف لا معطيات فعلية عن الموضوع”.
ويلفت إلى أنّنا “أمام سوء تعاط من قبل القطاع المصرفي لناحية تأمين السيولة للمودعين وتسهيل أعمالهم وأعمال الشركات والتجار، وهم أول من يطالب بالدولار لاستمرارية وجودهم، وهناك أيضاً التعاطي بالدولار مع السلع والمواد التي يدعمها البنك المركزي، من أدوية ومواد غذائية وبنزين وما إلى ذلك، لكن التأخر سيّد الموقف على هذا الصعيد أيضاً”.
ويختم شعبان بأن الوضع الراهن يمكن تلخيصه بتهافت الجميع من مهربين والسوق السوداء والرسمية والتجار والشركات والمواطنين على القجة نفسها التي لم تعد تحتوي إلّا على 20 مليار دولار، على حدّ قول مصرف لبنان، في ظل رفضه إجراء تدقيق خارجي، وحتى هذا المبلغ لا يكفي في حال أراد الضخ في الأسواق لأكثر من 6 أشهر”.
وكان حاكم “المركزي” قد أصدر، الجمعة، بياناً عطفاً على البيان الصادر في 9/6/2020 والمتعلق بآلية بيع وتسليم شركات الصيرفة الدولار، وطلب “من كل شركات الصيرفة من الفئة (أ) التقدم بطلبات حصولها على الدولار نقداً من شركات تحويل الأموال (Masri ،OCI ،OMT)، أو مباشرة من المركز الرئيسي لمصرف لبنان، وذلك وفقاً للأسعار التي تحددها نقابة الصرافين يومياً (3910 – 3940)”. كما طلب من شركات الصيرفة إرسال جدول يومي بأسماء المستفيدين والمبالغ والتعليل، على أن تتم مراجعة هذا الجدول من قبل لجنة في مصرف لبنان.
وانفلت سعر صرف الدولار في السوق السوداء في مطلع الأسبوع، مُسجلاً أعلى مستوياته في لبنان شراءً وبيعاً، رغم تحديد نقابة الصرافين أسعاراً يومية للعملة الخضراء بلغت، الجمعة، 3890 للشراء كحد أدنى والبيع بسعر 3940 كحد أقصى، ما ضرب الخطة السياسية – المصرفية – القضائية – الأمنية لمواجهة فوضى الصرف، الأمر الذي شكل انتكاسة للصرافين المرخصين الذين يعانون من شحّ في الدولار نتيجة شراء المواطنين للدولار بسعر أرخص في محال الصيرفة ومن ثم بيعها في السوق السوداء، ما يحقق لهم مكاسب كبيرة نتيجة الفروقات في احتساب سعر صرف الدولار، وهذا ما دفع بعض المحال إلى إقفال أبوابها ريثما يتحرّك المعنيون لوضع حدّ لتفلت سعر الصرف.
ريتا الجمال
العربي الجديد