أظهر دونالد ترمب قدراً كبيراً من الولع بالقوات المسلحة عندما بدأ رئاسته، إذ أسهب في مدح العسكريين، وفي تعيين قادة سابقين بمناصب عليا في إدارته.
لكن، سرعان ما توترت العلاقات بعدما شعر هؤلاء الرجال باليأس من سياسات ترمب وسلوكه وأخلاقه، وبحلول أكتوبر (تشرين الأول) 2017، أفادت تقارير بأن ثلاثة من جنرالاته، وهم جيمس ماتيس وجون كيلي وهربرت مكماستر، اتفقوا على عدم الوجود جميعاً في الخارج بالوقت نفسه، وقرروا أن يبقى واحد منهم على الأقل بالبلاد لضبط التوازن، ردّاً على اتخاذ الرئيس بعض خطواته الأكثر جموحاً.
لكن بعد ذلك، استسلم القادة وغادروا واحداً تلو الآخر، ثم بدأ ترمب، الذي تجنّب التجنيد في حرب فيتنام بادعاء الإصابة بالنابتة العظمية، توجيه الإهانات عبر تغريداته إلى الرجال والنساء الذين واجهوا الخطر وخدموا بلادهم في الحروب، وبدا بشكل متزايد أن “جيشه” هو عبارة عن ميليشيات هامشية مدنية يمينية ومتطرفة، تضم جماعات مسلحة تحب ارتداء الملابس العسكرية، ويعيش أعضاؤها أحلام شخصية ولتر ميتي الخيالية عن الخدمة في القوات الخاصة.
بيد أن القوات المسلحة الأميركية هي الطرف الذي لجأ إليه ترمب مرة أخرى عندما اجتاح الغضب أميركا بعد مقتل جورج فلويد. وفي هذه الأثناء هدد الرئيس بأنه “عندما يبدأ النهب، يبدأ إطلاق النار” مستخدماً عبارات قائد شرطة سابق كانت أفعاله تستهدف المجتمعات السوداء، وإلى جانب نشر القوات، تباهى بالتهديد بإطلاق “كلاب شرسة” و”أعنف الأسلحة” على المتظاهرين.
لكن، مارك إسبر وزير الدفاع، وهو ضابط سابق بالجيش، صرّح الأربعاء الماضي، معبراً عن آراء كبار الضباط، بأنه “لا ينبغي استخدام القوات المسلحة في الاحتجاجات المدنية”، وأمر جنود الفرقة 82 المحمولة جوّاً بالعودة إلى قواعدهم من واشنطن، وقد أُجبِر على التراجع عن قراره بعد استدعائه إلى البيت الأبيض، ومن المرجّح أن يفقد الوزير وظيفته على الرغم من ذلك التراجع المذل، ومن المتوقع أن ينضم إلى عشرات الآخرين الذين دخلوا وخرجوا من هذه الإدارة التي تعاني خللاً وظيفياً.
وبينما تراجع إسبر، تقدّم قائدان سابقان لتأكيد الخوف الذي ينتاب القوات المسلحة تجاه رئيس يرون أنه عازم على تمزيق البلد، الذي أقسموا على حمايته، فهناك قلق حقيقي لدى البعض منهم إزاء ما قد يحاول ترمب فعله مع دنوّ انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل في حال رأى أنه سيخسر.
وجاءت التحذيرات من سلف إسبر على رأس البنتاغون الجنرال جيمس ماتيس ومن الجنرال جون ألين. وعبّر قبلهما بـ 24 ساعة الأميرال مايك مولن، الرئيس الأسبق لهيئة الأركان المشتركة، عن قلقه العميق.
وتحدّث ألن، الذي كان قائد القوات بأفغانستان، عن استيائه من استخدام قوات الأمن الفيدرالية الغاز المسيل الدموع والرصاص المطاطي خارج البيت الأبيض ضد المتظاهرين السلميين، حتى يتمكّن ترمب من التقاط صور وهو يرفع إنجيلاً أمام إحدى الكنائس.
وكتب ألن، في مجلة “فورين أفيرز” قائلاً “انزلاق الولايات المتحدة نحو معاداة الليبرالية ربما بدأ في الأول من يونيو (حزيران) 2020. فلنتذكّر هذا التاريخ، إنه قد يكون مؤشراً على بداية النهاية للتجربة الأميركية، لم يكن كافياً أن المتظاهرين السلميين حُرموا للتو من حقوقهم حسب التعديل الدستوري الأول، حتى جاءت هذه الصورة الفوتوغرافية لإضفاء الشرعية على ذلك الانتهاك بغطاء ديني”.
ثم أتت إدانة ماتيس لترمب، التي كانت عنيفة إذ اشتملت على اتهام شديد للرئيس بمحاولة تفكيك البنى الديمقراطية وإحلال الاستبداد في البلاد، كما رأى الجنرال ماتيس.
أحجم ماتيس حتى ذلك الوقت عن انتقاد ترمب، وبعد استقالته من الإدارة، أعلن الرئيس الأميركي في اجتماع لقادة الكونغرس أن الجنرال، الملقب بـ “الكلب المسعور” من قبل مشاة البحرية، كان “أكثر جنرال مبالغ في تقديره على مستوى العالم، أتعرفون لماذا؟ لأنه لم يكن قوياً بما فيه الكفاية”. ومضى الرئيس يشرح كم هو قوي بالمقارنة مع ماتيس، قائلاً “لقد ألقيت القبض على داعش”.
وحسب بوب ودورد، في كتابه “الخوف: ترمب في البيت الأبيض”، فإن الجنرال كان ينتظر بفارغ الصبر الخروج من “البلدة المجنونة” لترمب، لأن الرئيس الحالي، طبقاً للكتاب “غير متزن” و”أحمق”.
لكن، ماتيس اكتفى بالقول في العلن “لقد كسبت مكانتي في أرض المعركة، بينما دونالد ترمب كسب مكانته في رسالة من طبيب، العسكري الوحيد الذي لا يعتقد ترمب أنه مبالغ في قدراته هو العقيد ساندرز”، وأثارت تصريحاته خلال مأدبة عشاء رسمية ضحكاً مدوياً.
ليس هناك ما يثير الضحك في تقييم مروع للوضع الراهن على لسان وزير الدفاع السابق، وهو يرى أن الرئيس بثّ الفرقة والشقاق عمداً في البلاد حتى يمضي في تنفيذ أجندته، وأن الرجل الذي يحتل البيت الأبيض هو شخص مستعد لازدراء الدستور، وأنه يحاول استخدام الجيش كحارسه الإمبراطوري ضد الشعب.
وكتب ما تيس، في مجلة “ذي أتلانتيك” قائلاً “عندما التحقت بالجيش، قبل حوالى 50 سنة، أقسمت اليمين لدعم الدستور والدفاع عنه، لم أحلم إطلاقاً بأن القوات التي ستؤدي اليمين نفسها ستتلقى في أي ظرف من الظروف أوامر بانتهاك الحقوق الدستورية لمواطنيها، ناهيك بتوفير فرصة لالتقاط صورة غريبة للقائد العام المنتخب مع قيادة عسكرية تقف جنباً إلى جنب”.
أضاف وزير الدفاع السابق “يجب أن نرفض المسؤولين الذين يسخرون من دستورنا ونحاسبهم، إن دونالد ترمب هو أول رئيس في حياتي لا يحاول توحيد الأميركيين، بل هو حتى لا يدّعي أنه يحاول فعل ذلك، إننا نشهد عواقب ثلاث سنوات من هذ الجهد المتعمد”.
كما لفت الجنرال إلى أن ترمب يجسّد بعض المواصفات الخاصة بالعدو وبالدول الشمولية، وليس بالديمقراطيات، واستحضر في ذلك الرسالة التي وُجهت إلى القوات الأميركية وهي تستعد لاقتحام شواطئ نورماندي عام 1944. وجاء في تلك الرسالة أن “الشعار النازي لتدميرنا كان (فرّق تسد). وجوابنا الأميركي هو (في الاتحاد قوة)، يجب أن نستدعي تلك الوحدة للتغلب على هذه الأزمة، ونحن على ثقة بأننا أفضل من سياستنا”.
وجاءت هذه الإدانة العنيفة بعد نداء أطلقه الأميرال مولن قال فيه إنه “يجب علينا كمواطنين أن نعالج بشكل مباشر مع مسألة وحشية الشرطة والظلم المستمر ضد المجتمع الأميركي الأفريقي، ينبغي علينا أن ندعم وندافع عن الحق، وبالتأكيد عن الالتزام الرسمي باحترام التجمّع السلمي وحق إسماع الصوت”، وأضاف “هذه المساعي لا تتعارض مع بعضها بعضاً، ولن يتحقق أيّ منها بسهولة أو بأمان عن طريق الاستخدام السافر والعنيف لعسكريينا، سواء كانوا في الخدمة الفعلية أو بالحرس الوطني”.
وكان ترمب قد ردّ بتغريدات مسيئة، كما فعل في الماضي ضد أولئك الذين انتقدوه، من أمثال السناتور الراحل جون ماكين، الذي خدم في فيتنام وسقط خلال ذلك في الأسر، والأميرال ويليام مكرافين، الذي كان مسؤولاً عن غارة القوات الخاصة البحرية التي قتلت أسامة بن لادن.
وفي خطاب ألقاه الجنرال ماتيس، أمام مجموعة من الجنود خلال زيارته أفغانستان عام 2017، بعد عام من تولي ترمب الرئاسة، قال “بلادنا تعاني الآن هذه المشكلات، وأنتم تعرفونها وأنا أعرفها، إنها تعاني هذه المشكلات التي ليست لدينا في القوات المسلحة، فحافظوا فقط على صفوفكم حتى تعود بلادنا إلى التفاهم والاحترام المتبادل وإظهاره”.
غير أن الولايات المتحدة لم تفشل فحسب في إظهار التفاهم والاحترام في السنوات الثلاث التالية، بل أصبحت البلاد الآن أكثر انشقاقاً وانقساماً، وترمب، الذي أوجد هذه الحالة وفقاً لماتيس وقادة سابقين، يريد حاليّاً استخدام الجيش لإشعال مزيد من المواجهات المثيرة للفتنة.
لذا، فهذا وقت محفوف بالمخاطر بالنسبة إلى الجيش الأميركي، وهي ليست مخاطر من النوع الذي اعتادوا مواجهته في الحروب الخارجية، لكنها تنبع من المحاولات التي تُبذل لاستخدامهم ضد مواطنيهم، فهل يمكن تغيير الأمور وتعافي البلاد؟ يعتقد الجنرال ألن أن هذا ممكن، لكنه حذّر من أن المصالحة “يجب أن تأتي من الأسفل إلى الأعلى، ففي البيت الأبيض، ليس هناك من هو في منزله”.
كيم سنغوبتا
اندبندت عربي