بعد المظاهرات، أخيراً، في العراق، المعترضة على سوء الخدمات وأداء الحكومة، طالبت المرجعية الدينية في النجف، رئيس الحكومة، حيدر العبادي، باتخاذ خطوات أكثر شجاعة في مواجهة الفساد، وحين قرر العبادي إيجاد “خطة” إصلاحية، قال إنها تأتي استجابة “لتوجيهات” المرجعية العليا. واستخدم نوري المالكي العبارة نفسها، في معرض دعمه الإصلاحات، ما يشير إلى حجم الدور الذي باتت تلعبه المرجعية الدينية في النجف، ضمن العملية السياسية، وهو دورٌ تعاظَمَ طوال السنوات التي تلت الاحتلال الأميركي للعراق، ليمثل ما يشبه الانقلاب على الصمت التاريخي عن السياسة وشؤونها الذي حافظت عليه حوزة النجف، إلى حد كبير.
تاريخياً، عُرفت حوزة النجف بعدم تدخلها في السياسة، وكان الحركيون من الإسلاميين الشيعة يعيّرونها بهذا الأمر، ويسمونها “حوزة صامتة”، ويرفضون نأيها بنفسها عن الشأن السياسي، لكن هذا لا يعني أن هذه الحوزة، ومراجعها الكبار، ظلوا صامتين طوال الوقت، فقد كان للسيد محسن الحكيم، المرجع الأكبر في الحوزة، في ستينيات القرن المنصرم، موقف حاد تجاه حكم عبد الكريم قاسم، لأسباب مختلفة، منها قوانين الإصلاح الزراعي والأحوال الشخصية التي أقرها قاسم، ومنها تمدد الشيوعيين، ونفوذهم الضخم حتى في النجف، وقد تُرجم الموقف الحاد بفتوى من الحكيم، عام 1961، حرّم فيها الانتماء إلى الحزب الشيوعي.
كان محسن الحكيم يواجه، فيما يواجه، نزعة التحديث عند عبد الكريم قاسم، التي كانت ستقلص النفوذ الاجتماعي لحوزة النجف، لكن مسيرة التحديث هذه، في الدولة العراقية، لم تكتمل، بل تراجعت لاحقاً، ثم انتهت، مع تجريف المؤسسات الحديثة من أحزاب وهيئات ونقابات، وإنهاء دور الحزب الحداثي الحاكم (البعث)، لمصلحة الروابط العشائرية والمناطقية التي اخترقت الدولة العراقية، ثم هيمنت عليها، ما عزز الهويات الأولية (المذهبية والعشائرية) في المجال العام، وكان نتاج ذلك نشوء معارضة ذات صبغة طائفية واضحة، عملت على تسييس الهوية الشيعية، لمحاربة النظام، والدفاع عن الطائفة، وصولاً إلى ما جرى بعد الاحتلال الأميركي.
عندما كانت الأحزاب الإسلامية الشيعية تواجه النظام، غالباً من منافيها، كانت الحوزة خارج التجاذبات السياسية، حتى في عز التأزيم المتمثل بانتفاضة 1991، فقد كان السيد أبو القاسم الخوئي، المرجع الأعلى في النجف بين 1970-1992، بعيداً عن التدخل في السياسة، ورافضاً مبدأ ولاية الفقيه المطلقة التي جاءت بها الثورة الإيرانية، واستمر هذا الحال بعد وفاته، لكن الاحتلال الأميركي للعراق، ونتائجه، غيّرا هذا الواقع، وبات السيد علي السيستاني، المرجع الأعلى في الحوزة حالياً، يشارك ويبدي رأياً في الواقع السياسي. كان لانهيار الدولة العراقية ومؤسساتها كافة، وغياب مؤسسات المجتمع المدني، والحالة الطائفية التي سادت بعد الاحتلال، أثر كبير في دفع حوزة النجف إلى لعب دور سياسي، تأرجح بين التوسط ما بين السلطة والمجتمع، ورعاية العملية السياسية ورسم خطوطها العريضة، بما يشبه ولاية فقيه من نوعٍ خاص. وعليه، ساهمت هذه المرجعية في صناعة التركيبة السياسية العراقية، بصيغتها الحالية.
انطلق دور المرجعية السياسي مع تشجيعها على إجراء الاستفتاء على الدستور، ومباركته، ثم الدفع باتجاه إجراء انتخابات نيابية، ورعاية المرجعية والمقربين منها للائتلاف الشيعي عام 2005، الذي احتاجت أحزابه لتحصيل شرعيةٍ ضمن الحاضنة الاجتماعية الشيعية، بعد غياب الاحتكاك معها فترات طويلة، ولم تجد أفضل من عنوان المرجعية للحشد والتعبئة. لم تملك النخب الحاكمة مشروعاً غير شد العصب المذهبي، بالإكثار من مواكب العزاء واللطم، وتعزيز الحالة الطقوسية الشيعية، في وقت انتشر فيه الفساد وسوء الخدمات، وساهمت سياسات هذه الأحزاب التي حظيت بمباركة المرجعية، في إيجاد شرخٍ وطني عميق، واحترابٍ أهلي، بسياساتها الطائفية.
حرصت المرجعية الدينية على وضع مسافة بينها وبين النخبة السياسية، للحفاظ على رمزيتها الأخلاقية، ونفوذها الاجتماعي، وهذا لا ينفي أنها أعطت الغطاء لهذه النخبة، غير أن نوري المالكي، بسلطويته وتغوله في مؤسسات الدولة الوليدة، أحدث خلافاً داخل هذه النخبة، وتوتراً مع المرجعية، إذ بدا وكأن المالكي يستغني عن المرجعية ومظلتها، باستخدامه أدوات الدولة، ما جعل المرجعية تدعم تحالفاً بين الخصوم (الحكيم والصدر) ضده في انتخابات العام الماضي. مع ذلك، فاز المالكي (في إشارة إلى أن المزاج الشيعي ليس محكوماً برأي المرجعية دائماً)، لكنه خرج من السلطة، لعوامل محلية وإقليمية ودولية متشابكة، فعاد ليؤكد توجيهات المرجعية العليا.
توضح تصريحات العبادي والمالكي أن المشكلة في النخبة السياسية الطائفية، التي تستدعي دوراً أكبر للمرجعية، ويحاول كل سياسي جرّها إلى صفه، بدلاً من السير في عملية التحديث، وإعادة المرجعية إلى دورها وحجمها الطبيعيين، وإذا أضفنا إلى ذلك رغبة إيرانية في إيجاد خليفة للسيستاني، يتماشى مع الخط الإيراني، وتفكير إيران الذي لا يخرج من صندوق ولاية الفقيه، من دون مراعاة الاختلافات بين العراق وإيران، نصبح أمام دفعٍ إيراني، وتشجيعٍ من النخبة العراقية، للمرجعية، للعب دور أكبر، بما يورطها في كل المشكلات التي تنتجها التركيبة السياسية، بدلاً من تأكيد توافقات وطنية عامة، من دون التورط في الإشكالات السياسية.
عندما كانت الأحزاب الإسلامية الشيعية تواجه النظام، غالباً من منافيها، كانت الحوزة خارج التجاذبات السياسية، حتى في عز التأزيم المتمثل بانتفاضة 1991، فقد كان السيد أبو القاسم الخوئي، المرجع الأعلى في النجف بين 1970-1992، بعيداً عن التدخل في السياسة، ورافضاً مبدأ ولاية الفقيه المطلقة التي جاءت بها الثورة الإيرانية، واستمر هذا الحال بعد وفاته، لكن الاحتلال الأميركي للعراق، ونتائجه، غيّرا هذا الواقع، وبات السيد علي السيستاني، المرجع الأعلى في الحوزة حالياً، يشارك ويبدي رأياً في الواقع السياسي. كان لانهيار الدولة العراقية ومؤسساتها كافة، وغياب مؤسسات المجتمع المدني، والحالة الطائفية التي سادت بعد الاحتلال، أثر كبير في دفع حوزة النجف إلى لعب دور سياسي، تأرجح بين التوسط ما بين السلطة والمجتمع، ورعاية العملية السياسية ورسم خطوطها العريضة، بما يشبه ولاية فقيه من نوعٍ خاص. وعليه، ساهمت هذه المرجعية في صناعة التركيبة السياسية العراقية، بصيغتها الحالية.
انطلق دور المرجعية السياسي مع تشجيعها على إجراء الاستفتاء على الدستور، ومباركته، ثم الدفع باتجاه إجراء انتخابات نيابية، ورعاية المرجعية والمقربين منها للائتلاف الشيعي عام 2005، الذي احتاجت أحزابه لتحصيل شرعيةٍ ضمن الحاضنة الاجتماعية الشيعية، بعد غياب الاحتكاك معها فترات طويلة، ولم تجد أفضل من عنوان المرجعية للحشد والتعبئة. لم تملك النخب الحاكمة مشروعاً غير شد العصب المذهبي، بالإكثار من مواكب العزاء واللطم، وتعزيز الحالة الطقوسية الشيعية، في وقت انتشر فيه الفساد وسوء الخدمات، وساهمت سياسات هذه الأحزاب التي حظيت بمباركة المرجعية، في إيجاد شرخٍ وطني عميق، واحترابٍ أهلي، بسياساتها الطائفية.
حرصت المرجعية الدينية على وضع مسافة بينها وبين النخبة السياسية، للحفاظ على رمزيتها الأخلاقية، ونفوذها الاجتماعي، وهذا لا ينفي أنها أعطت الغطاء لهذه النخبة، غير أن نوري المالكي، بسلطويته وتغوله في مؤسسات الدولة الوليدة، أحدث خلافاً داخل هذه النخبة، وتوتراً مع المرجعية، إذ بدا وكأن المالكي يستغني عن المرجعية ومظلتها، باستخدامه أدوات الدولة، ما جعل المرجعية تدعم تحالفاً بين الخصوم (الحكيم والصدر) ضده في انتخابات العام الماضي. مع ذلك، فاز المالكي (في إشارة إلى أن المزاج الشيعي ليس محكوماً برأي المرجعية دائماً)، لكنه خرج من السلطة، لعوامل محلية وإقليمية ودولية متشابكة، فعاد ليؤكد توجيهات المرجعية العليا.
توضح تصريحات العبادي والمالكي أن المشكلة في النخبة السياسية الطائفية، التي تستدعي دوراً أكبر للمرجعية، ويحاول كل سياسي جرّها إلى صفه، بدلاً من السير في عملية التحديث، وإعادة المرجعية إلى دورها وحجمها الطبيعيين، وإذا أضفنا إلى ذلك رغبة إيرانية في إيجاد خليفة للسيستاني، يتماشى مع الخط الإيراني، وتفكير إيران الذي لا يخرج من صندوق ولاية الفقيه، من دون مراعاة الاختلافات بين العراق وإيران، نصبح أمام دفعٍ إيراني، وتشجيعٍ من النخبة العراقية، للمرجعية، للعب دور أكبر، بما يورطها في كل المشكلات التي تنتجها التركيبة السياسية، بدلاً من تأكيد توافقات وطنية عامة، من دون التورط في الإشكالات السياسية.
بدر الإبراهيم
صحيفة العربي الجديد