بهذه الكلمات ناشد رئيس الوزراء “عبد الكريم قاسم” الشعب العراقي، بعد وقوع انقلاب 8 فبراير/شباط 1963، إلا أن هذه الكلمات لم يسمعها أحد غير قاسم، فقد قام بتسجيلها في محطة إذاعة قصر “الزهور” الاحتياطية، لكن الانقلاب منع إذاعتها بعد أن سيطر على كل المنشآت الحيوية للدولة، بمساعدة صديق قاسم المقرب “عبد السلام عارف”، الذي انتهز الفرصة للأخذ بثأره القديم، فقد سبقه قاسم وانقلب عليه، ووضع حبل المشنقة حول عنقه، لكن الاختلاف بينهما أن قاسم لم يستطع تنفيذ حكم الإعدام، لكن عارف نفّذه عندما سنحت الفرصة أمامه. فما قصة هذه الصداقة التي استمرت لـ 20 عاما انتهت بانقلاب ثم إعدام صديق العمر رميا بالرصاص؟
صداقة بدأت في ساحة الكلية العسكرية
في عام 1938 بساحة الكلية العسكرية ببغداد، كان اللقاء الأول الذي جمع بين “عبد الكريم قاسم” المدرس بالكلية و”عبد السلام عارف” الطالب بالفرقة الأولى، من هنا بدأت خيوط الصداقة الأولى بين الأستاذ وطالبه، فقاسم الأستاذ الذي يُفضِّل عارف عن بقية الطلاب، وعارف الطالب المطيع الذي لا يرى قائدا ومعلما غير قاسم.
لتستمر الصداقة بينهما حتى تخرّج عارف في الكلية العسكرية عام 1941، هنا افترق الصديقان، إذ عُيّن عارف بعد تخرجه قائدا لإحدى سرايا المدرعات ببغداد،(2) وشارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني (ثورة مايس) عام 1941، التي قامت اعتراضا على تبعية الأمير عبد الإله بن علي الهاشمي الوصي على العرش لبريطانيا والسماح لها بزيادة نفوذها في العراق، فكانت النتيجة هي هرب عبد الإله خارج العراق، ومن ثم عزله، وتنصيب “الشريف شرف” بدلا منه، وتشكيل الكيلاني لحكومته الائتلافية الثالثة، لكن هذه المرة لم تستمر سوى شهر واحد بسبب رفض بريطانيا لها، إذ كانت تعارض هذه الحكومة مصالحها، فقد سبق وأن رفض الكيلاني قبل ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيطاليا لمشاركتها في الحرب العالمية الثانية ضد بريطانيا.(3)
مما سبّب ذلك تخوفا لبريطانيا من حكومة الكيلاني، إذ رأت أن هذه الحكومة ستعمل ضد مصالحها، لذلك قرّرت شن الحرب على العراق واحتلاله وإسقاط حكومة الكيلاني والحكم عليه وعلى رفاقه بالإعدام غيابيا، ومن ثم عاد كلٌّ من “عبد الإله” الوصي على العرش للحكم مرة أخرى ومعه نوري السعيد، وهو سياسي وعسكري عراقي تولّى العديد من المناصب خلال العهد الملكي، فكان وزيرا للدفاع ووزيرا للداخلية، وأخيرا رئيسا للوزراء حتى انقلاب يوليو/تموز 1958 في العراق.(4) وبسبب سقوط حكومة الكيلاني، وعودة نوري وعبد الإله للحكم مرة أخرى، نُقل عارف إلى البصرة في العام نفسه، وعُيّن ضابطا في الاستخبارات العسكرية، وهناك التقى بصديقه قاسم من جديد، وكثرت اللقاءات بينهما، والتي كانت تدور دائما حول سوء الأوضاع التي يعيشها الشعب العراقي، وخضوع الأمير “عبد الإله” الوصي على العرش و”نوري السعيد” رئيس الوزراء لسياسة الاحتلال البريطاني.(5)
بالترتيب في المقدمة الملك “فيصل الثاني” ملك العراق، والوصي على العرش “عبد الإله”، ورئيس الوزراء “نوري السعيد” (مواقع التواصل)
بعد ذلك، افترق الصديقان، حيث ذهب كلٌّ منهما للعمل في مناطق بعيدة عن بعضهما بعضا، لكن مثلما فرّقتهما الحياة العسكرية فقد جمعتهما مرة أخرى للعمل معا في مدينة كركوك، وفي عام 1948 شاركا معا في حرب فلسطين، فقد أُرسل قاسم إلى مدينة “كفر قاسم”، بينما ذهب عارف إلى مدينة “جنين”، وهناك استمرت اللقاءات بينهما نظرا لصغر المسافة بين المدينتين، وبعد انتهاء الحرب عادا معا إلى العراق، وتوطدت الصداقة بينهما أكثر.(5)
بيد أنهما قد تفرّقا من جديد عام 1951 بعد سفر عارف للمشاركة في دورة تدريبية في مدينة “دوسلدورف الألمانية”، ظلّ فيها لمدة خمس سنوات، خلال هذه الفترة أسّس “قاسم” تنظيما سريا اسمه “المنصور”، اندمج هذا التنظيم فيما بعد مع تنظيم الضباط الأحرار (الضباط الوطنيين) لقائده الرائد “رفعت الحاج سري” الذي قام بتأسيسه في نهاية عام 1952 من أجل إسقاط النظام الملكي في العراق، وهو شبيه بتنظيم الضباط الأحرار المصري، فقد اقتبس تنظيم الضباط العراقي الاسم والفكرة من تنظيم الضباط المصري بعد نجاحه في إسقاط النظام الملكي في مصر عام 1952.(6)
وفي عام 1956 عاد عارف إلى العراق واجتمع هو وقاسم من جديد، وبسبب الصداقة القوية بينهما ضمّه قاسم إلى تنظيم الضباط الأحرار، على الرغم من رفض أعضاء التنظيم جميعا لعارف(7) بسبب “شخصيته العصبية وعدم سيطرته على انفعالاته، وطائفيته”، لكن مع إصرار قاسم عليه قائلا: “هذا معنا في التنظيم، وهو يعرف كل شيء”، وافق أعضاء التنظيم على ضمّه(8)، على الجانب الآخر ذكر المؤرخ الفلسطيني “حنا بطاطو” أن عارف كتب في مذكراته التي نشرتها مجلة “روز اليوسف” المصرية أنه ضمّ قاسم للتنظيم قائلا: “التقيت في إحدى ليالي ديسمبر/كانون الأول بالشهيد رفعت الحاج سري في نادي الضباط، وكان لاجتماعنا علاقة بالأوضاع في بلدنا، واتفقنا منذ اللحظات الأولى على أن اللحظة الحاسمة للعمل الثوري كانت في متناول اليد، وكان هناك بين الضباط ذوي الرتب العالية الذين تولّوا تنظيم القوى بانتظار يوم الثورة عبد الكريم قاسم، الذي فاتحته للمرة الأولى في مسألة الاشتراك معنا في 1954 و1955 عندما خدم بإمرته كآمر لإحدى كتائب اللواء التاسع عشر”.(9)
لكن بطاطو يُشكِّك بإملاء عارف هذه القصة لمحرر “روز اليوسف”، ويعتقد أن المحرر هو الذي أضافها، خاصة أنها مخالفة لتصريح “رفعت الحاج سري” في أثناء “محكمة الشعب” التي قال فيها: “في بداية نشاطاتنا لم يكن العقيد المتقاعد عبد السلام عارف ينتمي إلى تنظيماتنا، وأما في العام 1956 -على ما أعتقد- قد فاتحنا فخامة الزعيم عبد الكريم قاسم للمرة الأولى بالموضوع…، وهذا ما جعلنا نستغرب، لقلة ثقتنا -كما كنا- بالعقيد المتقاعد، لتأهّبه وافتقاره للحذر… لم أقابله إلا قبل نحو شهرين من الثورة، ووجدت يومها أنه شاركنا مشاعرنا وأهدافنا وسياستنا للثورة، ولم أستطع أن أُخفي دهشتي بهذا، وأخبرته أن انطباعنا عنه كان سلبيا جدا”.(9)
يكمل بطاطو حديثه قائلا: “بغض النظر عما إذا كانت الجماعة قيد النقاش تعود بأصلها، أم لا، مباشرة إلى عارف وفي النهاية إلى سري، فإن هناك نقطة لا تقبل النقاش وهي: في العام 1955، عندما بدأت الجماعة تُثبت وجودها في أوساط الضباط الأحرار، كان قاسم هو الذي يقف على رأسها ويوجّهها بشكل مستقل عن الحركة الرئيسية، وأن سري أرسل الرئيس الأول “شكيب الفضلي” يطلب فيها دعم قاسم والاشتراك معهم فوافق، وبدأ يتعاون عن قُرب معهم، وفي عام 1957 اندمجت جماعة قاسم بالحركة الرئيسية”.(9)
ويوضح بأن ضمّ عارف لقاسم لا توجد عليه براهين كافية، وعلّق أن السبب وراء ظهور هذه القصة “مجرد فرضية، في العام 1959 عندما كان النزاع بين قاسم والقوميين على أشده، والأمر الثاني بأن الحكاية عادت للظهور من جديد في مذكرات عبد السلام عارف كحقيقة مكتملة النمو”، وذكر بأن عام 1957 جاء قاسم بعارف إلى اجتماع اللجنة، “وقد بدا الذهول على الجميع، خاصة أن عضويته لم تكن قيد البحث، لكن قاسم طمأن الأعضاء، وقال لهم إنه واثق من عارف، وعلى إثر ذلك أدّى قاسم وعارف قسم الولاء على القرآن وانضم رسميا إلى اللجنة”. وفي العام نفسه انتُخب قاسم رئيسا للتنظيم، لأنه صاحب أعلى رتبة عسكرية فيه، فقد وصل إلى رتبة عميد بالجيش،(9) بالإضافة إلى علاقة قاسم الوطيدة بنوري السعيد وثقته العمياء فيه، كل هذا سيسهّل عملية الانقلاب، وبذلك أصبح قاسم رئيسا للتنظيم.(10)
انقلاب يوليو/تموز 1958 الذي هزم الصداقة
أيها الإخوان: “إن الجيش هو منكم وإليكم، وقد قام بما تريدون وأزال الطبقة الباغية التي استهترت بحقوق الشعب، فما عليكم إلا أن تآزروه، في رصاصه وقنابله وزئيره المُنصبّ على قصر الرحاب وقصر نوري السعيد، واعلموا أن الظفر لا يتم إلا بترصينه والمحافظة عليه من مؤامرات الاستعمار وأذنابه، وعليه فإننا نوجّه إليكم نداءنا للقيام بإخبار السلطات عن كل مفسد ومسيء وخائن لاستئصاله، ونرجو أن تكونوا يدا واحدة من السليمانية إلى الرطبة، ومن زاخو إلى الفاو، العراق يد واحدة للقضاء على هؤلاء والتخلص من شرهم”.(10)
اعلان
بهذه الكلمات التي كتبها قاسم وعارف أذاع عارف أول بيان لانقلاب 14 يوليو/تموز 1958، الذي خطّط له الأول ونفّذه الثاني، في ظل تردد أعضاء التنظيم للقيام بالانقلاب وتأجيلهم للقيام به أكثر من مرة، لذلك قرّر عارف وقاسم ومعهما العقيد “عبد اللطيف الدراجي” السعي لعرقلة اجتماعات اللجنة العليا، وافتعال المشكلات، لحرصهم على تنفيذ الانقلاب بمفردهم وعدم إخبار أحد، فيحكي عارف في مذكراته قائلا:
“كثيرا ما كانت تُعقد اجتماعات الهيئة العليا وتكون النتائج نظرية ومعظمها تكون جدلا، وفعلا قد انسحب كثير من الضباط من الهيئة، وأخيرا قال لي قاسم دعنا نجاملهم كإخوان كي لا نفرّط بإخوتنا وننفّذ قسمنا، ولكن العمل الحاسم بيني وبينك، وفعلا حاول كثير من ضباط الثورة معرفة وقت ويوم الحركة فأبينا الإجابة، وكانت غايتنا الكتمان والمباغتة، ويوم الخميس 10 يوليو/تموز 1958 شهد نشاطا واسعا، فقد كان عليَّ أن أمر على جميع الضباط المكلفين بتنفيذ العملية لأشرح لهم تفاصيل الخطة وتحركاتها. وقد حاول كثير من الضباط معرفة وقت الحركة إلا أنني آثرت السرية، فقد كانت غايتنا الكتمان والمباغتة واكتفيت بتبليغ عدد قليل جدا من الضباط، وهم الذين سيقومون بواجبات التنفيذ، وكان واجبي أن أسيطر على اللواء العشرين وأعزل مقر قيادته واستلم القيادة”.(10)
هكذا، قام الانقلاب بمعرفة عدد قليلا من ضباط أعضاء التنظيم، بجانب عارف وقاسم، أما باقي أعضاء التنظيم فعلموا به عن طريق الإذاعة،(10) وقد نجح الانقلاب في الاستيلاء على الحكم والإطاحة بالملكية، وانفرد قاسم وعارف بالحكم وقاموا بتوزيع المناصب بينهم وبين الضباط الذين قاموا معهما بالانقلاب، فقد تولى قاسم مناصب رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، وتولى عارف منصبَيْ نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية.(11)
أما “نجيب الربيعي” فأصبح رئيس مجلس السيادة لحين انتخاب رئيس للجمهورية، ووُزِّعت باقي الوزارات على أعضاء التنظيم.(11) وقام قاسم وعارف ومعهما الدراجي بتشكيل أول وزارة في العهد الجمهوري، وعيّنوا فيها الأصدقاء المقربين منهم، فعيّن قاسم صديقه “مصطفى علي” وزيرا للعدل، أما عارف فعيّن صديقه “جابر عمر” وزيرا للتربية والتعليم، وقام الدراجي بتعيين قريبه “محمد صالح محمود” وزيرا للصحة.(11)
على الجانب الآخر قام الانقلاب بتحقيق أهداف أخرى لصالح الشعب العراقي، منها إطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين، وخفض أحكام السجن على الأكراد المحكوم عليهم بالسجن بسبب اشتراكهم في الانتفاضات الكردية التي قامت في الفترة من 1943-1945 ضد الحكم الملكي، وتوزيع الأراضي على الفلاحين بموجب قانون الإصلاح الزراعي.(11)
أما بالنسبة للعائلة الملكية فقد قامت الحكومة الجديدة بمصادرة أموالهم وأملاكهم، بالإضافة إلى التخلص منهم بالقتل رميا بالرصاص، وكان على رأسهم الملك “فيصل الثاني” ولي العهد، والأمير “عبد الإله” الوصي على العرش، وقد قام بعض من العراقيين بسحل الجثتين في الشارع، ثم انتهى بهم الحال بدفن جثة فيصل في حفرة، أما جثة عبد الإله فأُحرقت وأُلقي بها في نهر دجلة، وبذلك انتهى العهد الملكي وبدأت مرحلة الحكم الجمهوري بالعراق الملطخ بالدماء.(12)
صديق الأمس عدو اليوم
كانت العلاقة بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف استثنائية، حيث يحكي عنها الزعيم الركن محيي الدين عبد الحميد قائلا: “عبد الكريم كان يعتمد على عبد السلام عارف ويعتبره أكثر من صديق، ويعتبره أخا، وكانت جميع الأمور السرية والقرارات -أتصوّر- يطّلع عليها عبد السلام، ويتذاكران لأنهما كانا قريبين إلى بعضهما، واجتماعاتنا كانت تحدث بين أسبوع وآخر عندما كان يحضر قاسم إلى بغداد، وعبد السلام كان يحضر أيضا”.(13)
اعلان
هذه الصداقة الحميمة التي جمعت بينهما، والتي كانت تُثير استغراب ضباط التنظيم، لم تستمر سوى شهور بعد انقلاب يوليو/تموز، فسرعان ما نشبت الخلافات بينهما بسبب طموح قاسم وعارف في السيطرة على السلطة،(14) فكانت البداية مع محاولة عارف إبراز نفسه بأنه مفجّر الثورة الحقيقي من خلال زياراته ولقاءاته الصحفية والتلفزيونية، فقد كان يتحدث عن نفسه وعن إذاعته لبيان الثورة، بينما لم يذكر حتى اسم قاسم، فضلا عن دوره المحوري.(15)
على الجانب الآخر، كان قاسم يرى في نفسه أنه القائد والأب الروحي والمخطط للثورة، لذلك جمع كل السلطات في يده، فكان رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، وعطّل مجلس السيادة، وقام بإلغاء تشكيل المجلس القومي لقيادة الثورة.(15)
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل نشبت خلافات أخرى بسبب إصرار كلٍّ منهما على وضع أصدقائه المقربين في المناصب المهمة،(16) أضف إلى كل ذلك الاختلاف في التوجهات الفكرية، فقاسم كان صاحب توجه يساري، وفي المقابل كان عارف ذا توجه قومي إسلامي. كل هذه الأمور جعلت قاسم يرى صديقه القديم هو “عدوه اللدود” الذي يجب التخلص منه، فأصدر قرارا بإعفاء عارف من مناصبه الوزارية وتعيينه سفيرا للعراق في ألمانيا الاتحادية،(17) لكن عارف اعترض على هذا المنصب في البداية قائلا:
“في صباح يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 1958 زارني (طاهر يحيى) ومعه (فؤاد عارف) في مسكني، وفهمت منهما أن قاسم يرغب في مقابلتي لتسوية موضوع سفري، وتركتهم لأرتدي ملابسي، وداخل غرفتي كانت الفكرة قد اختمرت في ذهني، سحبت مسدسي ووضعته في مكان أمين في سترتي وخرجت معهما وتوجهنا إلى وزارة الدفاع، دخلت غرفة قاسم فوجدته مع (وصفي طاهر)، ثم طلب من وصفي أن يخرج من الغرفة، ووقف يحدثني محاولا إقناعي بالعدول عن قراري، وأنه سيزودني في ألمانيا بكل ما أطلب”.
“وعليّ أن أذهب إلى بون حتى تهدأ الأمور ثم يعيدني مرة أخرى، فقلت له إن مجرد خروجي من بغداد شيء لا أرتضيه، ولا يمكن أن أرضخ لإرادة حفنة من الشعوبيين الذين يضمرون الشر لهذا البلد، ولكن قاسم عاد يلح عليّ مرة بالتهديد وأخرى بالوعود، وعندما يئس من محاولته أنهى المقابلة وذهب إلى باب الغرفة ليفتحه لي. في هذه اللحظة تقدمت يدي نحو مسدسي الذي أخرجته من مكمنه بحذر بينما كان قاسم يحاول فتح باب الغرفة. في هذه اللحظة كان قد دخل إلى مكتب قاسم عدد من الضباط فأعدت وضع مسدسي في مكانه، وكان لا بد من حل آخر”.(18)
استسلم عارف للأمر الواقع وقرّر السفر لاستلام عمله، وذهب قاسم لتوديعه في المطار، وما هي إلا أشهر حتى عاد عارف مرة أخرى للعراق، وأُحيل إلى المحاكمة العسكرية بتهمة محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم والمشاركة في الانقلاب عليه.(19) وفي عام 1959 صدر الحُكم على عارف بالفصل النهائي من القوات المسلحة والإعدام شنقا. وظل قرار إعدامه في مكتب قاسم دون تصديق أو إعفاء،(20) حتى أرسل عارف رسالة إلى قاسم من السجن قال فيها: “سيدي وقائدي وأخي الزعيم عبد الكريم.. إنني منك كهارون من موسى، لقد طال انتظار عطفك عليّ ورأفتك بي.. إن أطفالي ينتظرونني…”،(21) قيل إن هذه الرسالة كانت سببا في إصدار قاسم قرار العفو عنه في عام 1962، ووُضِع تحت الإقامة الجبرية.(22)
صداقة انتهت بإعدام صديق العمر
لم يستطع قاسم إنهاء حياة عارف، وإنما كان مجرد إقصاء فقط، لكن عارف كان له رأي آخر، فقد قرّر الانتقام من قاسم والانقلاب عليه من خلال إقامته الجبرية، وساعده في ذلك أن فترة حكم قاسم شهدت العديد من الأمور التي كانت سببا في رفض الشعب له، على سبيل المثال انفراد قاسم بالسلطة وقيامه “بإبعاد كل القوى القومية عن السلطة والتنكيل بها”، ثم محاولة الانقلاب الفاشلة من قِبل الضابط عبد الوهاب الشواف على قاسم، وفيها أُلقي القبض على الكثير من المشتبه بهم وقُدِّموا للمحاكمة.(23)
وعُرفت هذه المحاكمة بمحكمة “الشعب”، أو محكمة “المهداوي” نسبة إلى العقيد “فاضل عباس المهداوي” ابن خالة عبد الكريم قاسم الذي أصدر حكما بالإعدام على 22 شخصا اتُّهِموا بالاشتراك في الانقلاب، وقد أثار هذا الأمر جدلا كبيرا خاصة أن مَن أصدر الحكم هو قريب لقاسم، مما اعتبره البعض حكما غير عادل.(23) أضف إلى ذلك مطالبة قاسم بضم الكويت إلى العراق، والذي سبّب غضبا كبيرا في العالم العربي نتج عنه انسحاب العراق من عضوية جامعة الدول العربية.(24)
ثم قيام قاسم بقمع حركات التمرد والانتفاضات التي قامت من جانب الأكراد،(25) فتراكمت كل هذه الأمور وكانت سببا في انهيار شعبية قاسم وقيام التظاهرات ضده في أنحاء كثيرة من العراق، فكانت النتيجة أنه في 8 فبراير/شباط 1963 نجح عارف صديق الكلية العسكرية بالانقلاب على قاسم والسيطرة على مقاليد الحكم، بمساعدة حزب البعث الذي أسّسه فؤاد الركابي عام 1952، وبالتعاون مع التيارات القومية وبعض العسكريين المستقلين، وأحمد حسن البكر الذي سيصبح بعد ذلك رئيسا للوزراء ثم رئيسا للعراق.(26)
في اليوم الثاني للانقلاب نجح عارف في السيطرة على مبنى وزارة الدفاع، وهنا ذُكِرت روايتان؛ الرواية الأولى “أنه تم الاتفاق بين قاسم وعارف بتوقف الأول عن القتال مقابل محاكمة قاسم محاكمة عادلة”، أما الرواية الثانية فهي “استسلام قاسم”.(27) وقيل إنه دار حوار بين قاسم وعارف قبل إعدامه، حيث سأل الأول الثاني قائلا: “هل هذه النهاية هي مقابل الرحمة والعطف الذي شملتها بك؟ فأجابه عارف متلعثما بأن الأمر خارج يده”.(28)
ورغم اختلاف الروايات التاريخية فإن النهاية تبقى واحدة، وهي محاكمة صورية عاجلة في اليوم الثاني للانقلاب صدر خلالها الحكم بالإعدام على قاسم والضباط المرافقين له، وهم “فاضل المهداوي”، و”طه الشيخ أحمد”، و”كنعان حداد”، رميا بالرصاص في مقر إذاعة دجلة ببغداد، والتمثيل بجثثهم ومعهم قاسم على شاشة التلفزيون العراقي، لتأكيد التخلص منهم، وتنصيب عارف رئيسا للعراق.(28)
وبعد أشهر من تولي عارف الحكم استغل فيها الخلافات الداخلية التي حدثت داخل حزب البعث، قام بالانقلاب عليهم في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1963 ووضعهم في السجن، بالإضافة إلى التخلص من العسكريين الذين ساعدوه في الوصول للحكم، وانفرد بالسلطة مثلما فعل قاسم، وظل فيها حتى وفاته في 13 إبريل/نيسان 1966 إثر سقوط الطائرة التي كان يستقلّها بمنطقة القرنة بعد عودته من زيارة لمحافظة البصرة جنوب العراق، إذ قيل إن الطائرة تعرّضت لعاصفة رملية نتج عنها عُطل فني أدّى إلى انفجارها، وهذا ما أكّدته التحقيقات العراقية، على عكس ما جاء في تقرير الشركة الروسية المصنعة للطائرة بعدم وجود عطل فني فيها،(29) وأن هناك شبهة جنائية وراء انفجار الطائرة، وقيل إن للبعثيين دورا في قتله، ومع تعدُّد الروايات تظل وفاة عبد السلام عارف غامضة حتى اليوم.(30)
في النهاية، يظل حب السلطة والحفاظ على المنصب أقوى من أي شيء، فلم تكن صداقة قاسم وعارف هي الصداقة الوحيدة التي انتهت بهذه النهاية المأساوية، فهناك أيضا “جمال عبد الناصر” و”عبد الحكيم عامر” أصدقاء الكلية الحربية التي أنهت صداقتهم نكسة 1967، والتي أدّت إلى وفاة غامضة لعامر ما زالت تُثير الشكوك حول علاقة عبد الناصر بمقتل صديق عمره.
سلوى يحيى
ميدان -الجزيرة