ماذا تريد تركيا إردوغان من تدخلها العسكري المباشر في ليبيا؟ هل تريد أنْ تكونَ اللاعب الأولَ في هذا البلد الذي يمتلك موقعاً استراتيجياً وثروة نفطية في أرضه ومياهه؟ أم تريد إضافة إلى ذلك تطويقَ مصر والإضرار بأمنها ومصالحها ومعاقبتها على الأضرار التي ألحقتها بالمشروع «الإخواني» إبان «الربيع العربي»؟ هل تريد أنْ تنتزعَ لنفسها صفة «الدولة الكبرى المحلية» في الإقليم ما يعني حقها في تحريك قواتها والميليشيات التابعة لها والمرتزقة بين خرائط المنطقة؟ وهل تعتبر أنَّ المناخَ الدولي الحالي مناسبٌ لتحجز أنقرة موقعاً مميزاً في أي ترتيبات مستقبلية تعني أمنَ المنطقة وآبارها وأنهارها؟ وهل تريد تركيا إردوغان استنساخ تجربة إيران خامنئي في الإمساك بمفاتيح القرار في عواصم عربية والمجاهرة بذلك؟ وهل أفادت تركيا في ليبيا من رغبة أميركا في قطع الطريق على أي محاولة من جانب روسيا، لإنشاء قاعدة على الساحل الليبي بعدما عزَّزت قاعدتها على الساحل السوري؟ وما هي حقيقة رقصة التانغو المعقدة بين إردوغان وبوتين من إدلب إلى سرت؟ وهل تستطيع أوروبا، على رغم افتقار موقفها إلى الوحدة، احتمال رؤية ليبيا واقعة في يد الرجل الذي يخرج بين وقت وآخر مهدداً بإغراق القارة القديمة بأمواج اللاجئين؟ وهل يعتبر إردوغان أنَّ الشرق الأوسط غابة، الغلبة فيها للأقوى لا للمراهن على الأمم المتحدة ودموع أمينها العام أو الأمين العام للجامعة العربية ومناشداته؟ وهل يعتقد أنَّ ما فعلته وتفعله إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن يبرر لتركيا أن تتسلَّلَ بدورها إلى خرائط عربية وتتولى تطويعها وإلحاقها بـ«الربيع المعدل»؟
ستظلُّ هذه الأسئلة مطروحة ما دام إردوغان يواصل اندفاعته في المنطقة وكأنه في سباق مع الوقت. قواته موجودة على الأرض العراقية من دون موافقة بغداد. وعلى الأرض السورية من دون موافقة دمشق. تشنُّ طائراته غارات في العراق. وتقوم قواته بتغيير ملامح مناطق في سوريا. هذا من دون أن ننسى وجوده العسكري في قطر والصومال وقبرص، وإن في ظروف مختلفة، ومحاولته فرض أمر واقع في التنقيب عن النفط في المتوسط.
لا مبالغة في القول إنَّ خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي افتتح صفحة جديدة في الأزمة الليبية. فالخطاب كان مهماً بمكانه وزمانه ومفرداته. اقترب الرئيس المصري من الحدود مع ليبيا ليعلن وبلهجة قاطعة، أنَّ بلاده لا تستطيع الاستقالة من مصير ليبيا، ليس فقط لأنَّها عربية، بل أيضاً لأنَّها تعني دور مصر واستقرارها ومصالحها الحيوية. وفي التوقيت جاء الخطاب بعد وقت قصير من محاولة تركيا الانتقال إلى مرحلة فرض الشروط حول ما يجب أن تكونَ عليه الأحوال في سرت والجفرة. أما المفردات فقد كانت هادئة وصارمة في آن، وكافية لإطلاق الرسالة في اتجاه من يفترض أن يسمع.
أمام القوات المصرية أعلن السيسي أنَّ «أي تدخل مباشر من الدولة المصرية باتت تتوافر له الشرعية الدولية سواء في ميثاق الأمم المتحدة: حق الدفاع عن النفس، أو بناء على السلطة الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي وهي مجلس النواب». أرفق السيسي كلامه بتحذير واضح وصل إلى حد رسم «خط أحمر» يمتد بين سرت والجفرة، مشدداً على أنَّ مصر «لن تسمح بتجاوزه». وفي تأكيد إضافي على جدية التحذير خاطب أفراد القوات المصرية قائلاً: «كونوا مستعدين لتنفيذ أي مهمة هنا داخل حدودنا، أو إذا تطلب الأمر خارج حدودنا».
إنَّها رسالة بالغة الوضوح موجهة إلى تركيا. وهي ليست مجرد رسالة مصرية بل هي أوسع من ذلك. لهذا اعتبر السيسي أن التطورات في ليبيا «وجلب المرتزقة والميليشيات لها» يمثل «تهديداً للأمن القومي العربي والإقليمي والأوروبي والسلم والاستقرار الدوليين، فضلاً عن التهديد المباشر للمصالح المصرية». وفي عبارة تستخدم للمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة الليبية قال السيسي: «لو تقدَّم الجيش إلى ليبيا ستكون القبائل الليبية على رأسه»، لافتاً إلى أنَّ الجيش المصري سيقوم بتدريب شباب القبائل الليبية وتسليحها.
والحقيقة هي أنَّ ليبيا المثقلة بالجروح تقف الآن على مفترق طرق. إما المسارعة إلى وقف النار ولجم شهيَّات التدخل التركي، وإما التحول مسرحاً لمواجهة متعددة الأطراف داخلياً وخارجياً. وليس ثمة شك في أنَّ القيادة المصرية بذلت جهوداً غير عادية للابتعاد عن خيار التدخل، لكن الرئيس رجب طيب إردوغان لم يترك لها أي خيار آخر.
تخطى التدخل التركي في ليبيا حدوده السابقة التي كان باستطاعة القاهرة غضُّ النظر عنها أو التساهل معها. تحول تدخلاً عسكرياً مباشراً وفجاً قلب المعادلات على الأرض، وانتقل إلى مرحلة فرض الشروط حول المستقبل الليبي. وزاد من فجاجة التدخل التركي قيامه بنقل أفواج من «المرتزقة» من الأراضي السورية للمشاركة في القتال ضد مواطنين ليبيين. وهذا يعني تجنيد عرب لمقاتلة عرب، لكن في سياق برنامج تركي، وهذا ليس بسيطاً.
لم يكن باستطاعة مصر تجاهل أنَّ الدور العسكري التركي على أرض ليبيا يهدد ليس فقط دورها بل أيضاً استقرارها. زاد في حدة الأمر أنَّ إردوغان لا يترك مناسبة إلا ويعبر من خلالها عن رغبته في تصفية الحسابات مع مصر الحالية، التي وجهت ضربة موجعة إلى حلم إردوغان الإقليمي حين تحركت وأسقطت حكم الرئيس محمد مرسي.
الحلقة الليبية في المشروع الإردوغاني مهمة وخطرة. في هذا السياق يمكن فهم التضامن الصريح مع مصر الذي سارعت السعودية إلى التعبير عنه بعد قليل من خطاب السيسي. السعودية التي بكّرت في التحذير من سياسات اختراق الخرائط وزعزعة استقرارها على يد إيران، سارعت أيضاً إلى التحذير من مشروع الانقلاب الكبير الذي تمثله سياسات التدخل التركية. ما عبَّرت عنه السعودية والإمارات والبحرين من دعم للموقف المصري هو في الحقيقة تعبيرٌ عن توق عربي إلى إعادة التوازن بين المكونات في منطقة الشرق الأوسط. اعتبار الأرض العربية مسرحاً مباحاً لسباق التقاسم الإيراني – التركي أمرٌ ينذر بحروب لا تنتهي. وليس سراً أنَّ السدَّ العربي في وجه هذه الرياح يبدأ بتفاهم سعودي – مصري على بناء موقف عربي موحد يحوّل الامتحان الليبي إلى فرصة لردع أحلام إردوغان.
غسان شربل
الشرق الأوسط