تونس – جاء الهجوم الذي أدى إلى سقوط ثلاثة قتلى وثلاثة جرحى في مدينة ريدينغ البريطانية السبت الماضي، ليطرح من جديد مسألة تعامل الغرب مع المتشددين وازدواجية المعايير التي يعتمدها في تحديد مواقفه منهم وعدم انتباهه لخطرها إلا عندما تستهدفه من الداخل.
قبل عام كان الشاب الليبي خيري سعدالله البالغ من العمر 25 عاما، يستعد للسفر إلى سوريا عبر تركيا للقتال هناك ضمن الجماعات المسلحة التي آلت السيطرة عليها لمخابرات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
لكن الجهات الأمنية البريطانية اكتشفت ذلك، ومنعت سعدالله من السفر ووضعته تحت رقابتها، إلى أن قام بالهجوم بسكين على مدنيين في متنزّه فوربوري غاردنز في مدينة ريدينغ على بعد 60 كلم غرب العاصمة لندن.
وفي 22 مايو 2017، فجر ليبي آخر هو سلمان العبيدي نفسه عند مخرج قاعة كبرى للحفلات، كانت تحيي فيها مغنية البوب الأميركية أريانا غراندي حفلا موسيقيا. وقتل 22 شخصا في الاعتداء، بينهم سبعة أطفال، فيما أصيب نحو مئة بجروح.
كانت تلك الحادثة إحدى أعنف أعمال التطرف التي عرفتها بريطانيا، ونفذها شاب ولد في مانشستر عام 1994 لأبوين مولودين في ليبيا، كان والده رمضان العبيدي عنصر أمن في عهد النظام السابق، قبل أن ينشق عنه في أوائل التسعينات من القرن الماضي وينضم إلى الجماعة الليبية المقاتلة بزعامة عبدالحكيم بالحاج.
الهجوم الذي نفذه الليبي خيري سعدالله يطرح من جديد كيفية تعامل الغرب مع المتشددين
ثم انخرط بعد ذلك المنفذ المذكور في حزب الأمة الذي شكله ناشطون سابقون في الجماعة وعلى رأسهم سامي الساعدي أحد أبرز المتشددين في طرابلس حاليا وعضو دار الإفتاء التابعة للمجلس الرئاسي، قبل أن يعود في العام 2011 إلى طرابلس، ويتسلم منصب المدير الإداري لقوات الأمن المركزي تحت سلطة المؤتمر الوطني العام الذي دفع لأول مرة بإرهابيين من تنظيم القاعدة إلى سدة الحكم.
وكان رمضان العبيدي قد حصل على اللجوء السياسي في بريطانيا في العام 1992 وتم تصنيفه لاحقا على أنه متأثر بفكر تنظيم القاعدة، ورغم ذلك كان يمارس نشاطا دعويا في مسجد ديديسبري الذي كان ابنه سلمان من رواده، كما عرف عنه تأثره بفتاوى مفتي طرابلس بعد 2011 الصادق الغرياني وعلاقته الوطيدة بابنه الحاصل بدوره على الجنسية البريطانية سهيل الغرياني صاحب قناة “التناصح” التي تمولها قطر وتبث برامجها من تركيا.
وفي يوليو 2019 خضعت حكومة الوفاق للضغوط البريطانية، وسلمت لندن هاشم العبيدي شقيق سلمان، والذي اتهمته المحكمة في فبراير الماضي بالمشاركة في التخطيط والإعداد لهجوم مانشستر، لكن جريمة السبت الماضي جاءت لتعيد فتح ملف العناصر الليبية المتشددة التي أصبحت لها مرجعيات فكرية من داخل منظومة الحكم في طرابلس.
وسبق للحكومة البريطانية أن اعترفت بعد حادثة مانشستر بأنها كانت على تواصل بأفراد كانوا عناصر سابقين في تنظيم القاعدة انظموا إلى جماعات إسلامية مقاتلة شاركت في أحداث فبراير 2011 في ليبيا، وقالت إن هذه السياسة التي اتبعتها أجهزة الأمن البريطانية عرفت باسم الباب المفتوح، وسمحت لمواطنين بريطانيين من أصل ليبي بالعودة إلى ليبيا للمشاركة في القتال خلال الثورة.
وقال عضو البرلمان البريطاني من حزب المحافظين أليستر جيمس في رد على سؤال ما إذا كانت بريطانيا على تواصل مع عناصر متشددة في ليبيا، أن بلاده تواصلت مع العديد آنذاك ومن المرجح أنها تواصلت مع عناصر سابقة في تنظيم القاعدة شاركوا في القتال، مشيرا إلى وجود علاقة تربط بين العناصر التي تواصلت معها بريطانيا وسلمان العبيدي المسؤول عن التفجير الذي أرعب بريطانيا.
وفي مايو 2018، كشفت لندن عن التوجه المحتضن للمتشددين عندما خرجت حكومتها للاعتذار بشكل رسمي لعبدالحكيم بلحاج، ونشرت بيان اعتذار لما وصفته بـ”إساءة” معاملة عبدالحكيم بلحاج، والذي اختطف في تايلاند عام 2004 ونقل إلى ليبيا حيث تعرض للتعذيب على يد النظام الليبي السابق.
وقالت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في الرسالة الموجهة إلى عبدالحكيم بلحاج وزوجته فاطمة “نيابة عن حكومة صاحبة الجلالة، أعتذر منكما بلا تحفظ”، وأقرت ماي أن “أفعال حكومة المملكة المتحدة ساهمت في اعتقالكما وتسليمكما ومعاناتكما”.
وفي أبريل 2019 أكدت صحيفة الغارديان البريطانية أن السلطات البريطانية كشفت لأول مرة أنها أنفقت نحو 11 مليون جنيه إسترليني (أكثر من 14 مليون دولار) على دفع التعويضات وملاحقة المسؤولين عن احتجاز عبدالحكيم بلحاج وزوجته فاطمة بودشار في تايلاند عام 2004، ضمن عملية خاصة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA وجهاز الاستخبارات البريطاني MI6.
وأشارت منظمة بريطانية إلى أن بلحاج وزوجته لم يرغبا في الحصول إلا على الاعتذار رسميا من قبل الحكومة، لكن لندن فضلت دفع هذه المبالغ الهائلة من أموال دافعي الضرائب على الاعتراف رسميا بدورها في احتجاز الليبيين.
ولا تخفي لندن دعمها لحكومة الوفاق بزعامة فايز السراج في ليبيا الذي تم الكشف في فبراير الماضي أنه وصل إلى باريس بجواز سفر بريطاني في زيارة لم تكن مقررة كما أنه يقضي أغلب أوقات راحته في سكنه اللندني الذي اقتناه ليقضي فيه فترة تقاعده.
وكان الجيش الوطني الليبي اتهم في أبريل 2019 بريطانيا بدعم الميليشيات، فيما يؤكد سياسيون ليبيون على أن لندن لا تزال تراهن على الإسلام السياسي للسيطرة على ليبيا رغم فقدانه للشرعية وانقلابه على نتائج الانتخابات في العام 2014.
وسيكون على الدول الأوروبية الاستعداد لمخاطر التطرف الذي تتسع رقعة نفوذه وتأثيره في ليبيا تحت مظلة حكومة الوفاق المعترف بها دوليا والتي تتخذ من الجماعات المتشددة والمرتزقة أدوات لتأبيد حكمها رغم فشلها السياسي والأمني والاقتصادي ونهاية ولايتها الرسمية منذ أكثر من ثلاث سنوات، وفقدانها الشرعية الشعبية والدستورية.
وتعتمد حكومة الوفاق حاليا على الآلاف من المتشددين من فلول القاعدة وداعش والميليشيات الخارجة عن القانون والمهربين إلى جانب أكثر من 15 ألف مرتزق سوري ومرتزقة آخرين من جنسيات مختلفة يتم نقلهم من شمال سوريا إلى طرابلس ومصراتة.
ويرى المحللون أن بريطانيا تعتبر المتشددين خطرا عليها لكنها لا تعتبرهم خطرا على شعوبهم، لذلك اعتادت على احتضانهم ودعمهم وتمويل تحركاتهم ليخدموا مشاريعها خارج حدودها مثلما يحدث في ليبيا منذ العام 2011 عندما سيطروا على البلاد بعدما تم اعتبارهم ثوارا ضد الاستبداد، في تغاض على جرائمهم المرتبكة في حق الشعب الليبي ودولته ومؤسساته.
ويتابع المحللون أن بريطانيا تعتبر عرابة جماعات الإسلام السياسي في بلدانها، وأنها ارتبطت بعهود ومواثيق مع جماعات متشددة على ألا تتعرض لها بالأذى، لافتين إلى أن ما قام به خيري سعدالله السبت الماضي، وإن كان عملا إرهابيا إلا أنه لا يحسب على الجماعات المتشددة المتعاونة مع السلطات البريطانية.
العرب