ثمَّة لازمةٌ نجترّها، نحن المتابعين للسياسة الأميركية نحو القضية الفلسطينية، ملخصها إن إدارة الرئيس دونالد ترامب قطعت مع مقاربةٍ راسخةٍ نهجتها في هذا الصدد إدارات ديمقراطية وجمهورية متعاقبة أكثر من سبعة عقود. وحسب تلك المقاربة الأميركية السابقة المفترضة، فإن أي تسوية للصراع الفلسطيني/ العربي – الإسرائيلي، ينبغي أن تكون حصيلة مفاوضاتٍ مشتركةٍ بين الأطراف المعنية. ويستدل كثيرون منا على تأكيد افتراق إدارة ترامب عن تلك المقاربة، عبر الإشارة إلى اعترافها من جانب واحد بـ”القدس الموحدة” عاصمة لإسرائيل (2017)، ونقل السفارة الأميركية إليها (2018)، ثمَّ إعلانها العام الماضي أنها لا تعترف بالتكييف القانوني القائل إن “المستوطنات المدنية” الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 تتعارض مع القانون الدولي. وما بين تلك القرارات، اتخذت هذه الإدارة خطوات أخرى، مثل اعترافها، عام 2019، بضم إسرائيل هضبة الجولان عام 1981، .. إلخ. وصولاً، مطلع هذا العام، إلى طرحها “خطة سلام” استثني الفلسطينيون منها، وأخذ رأي الإسرائيليين فيها، حكومة ومعارضة، وهي الخطة التي تريد فرضها على الفلسطينيين الآن، وليس التفاوض معهم عليها.
ما سبق صحيحٌ إلى حد كبير من حيث الإطار العام، ولكنه غير دقيقٍ من حيث التفاصيل، إذ لا يمكن فهم الموقف الأميركي الكلي، بإداراته المختلفة، من القضية الفلسطينية أكثر من عقود سبعة مضت، إلا في سياق الانحياز والتواطؤ والتراجع المهين أمام إسرائيل، حتى والولايات المتحدة تزعم نزاهة موقفها، والتزامها القانون والقرارات الدولية. كل ما في الأمر هنا أنه حتى وإن اختلفت أوجه التواطؤ ما بين إدارة وأخرى، فإن كل واحدةٍ منها كانت تمهد للإدارة التالية طريقاً نحو مزيد من الانحياز لصالح إسرائيل، وإجهاضاً للحقوق الفلسطينية والعربية.
هذه هي الخلاصة الموضوعية التي سينتهي إليها أي دارسٍ متعمق في السياسة الأميركية نحو
“ليست إدارة ترامب استثناء، من حيث المبدأ، في سياق الانحياز والتواطؤ الأميركي العام لصالح الدولة العبرية”القضية الفلسطينية، وبشكل أعم الصراع العربي – الإسرائيلي، منذ إدارة الرئيس هاري ترومان، التي اعترفت بدولة إسرائيل عام 1948 وأعلنت دعمها مباشرة، متغاضيةً عن تجاوزها النسبة التي حددها لها قرار التقسيم الأممي الظالم عام 1947، رقم 181، والذي صوّتت لصالحه. مروراً بإدارة ليندون جونسون التي مَكَّنَت لإسرائيل إبقاء الأراضي التي احتلها في حرب يونيو/ حزيران 1967 تحت سيطرتها، حتى وهي تعلن معارضتها ذلك. وما بين تَينِكَ الإدارتين، وما بعدهما، لم يتغير الحال كثيراً.
ضمن الإطار السابق، ليست إدارة ترامب استثناء، من حيث المبدأ، في سياق الانحياز والتواطؤ الأميركي العام لصالح الدولة العبرية، وإنما هي ورثته وعزّزته، ومضت فيه إلى مدى أبعد وأكثر فجاجة ولؤماً. أما الاستثناء الحقيقي الذي تمثله هنا، فيمكن تلخيصه في أنها أول إدارة تقبل أن تكون مجرّد قناة يمرّر اليمين الصهيوني الإسرائيلي المتطرّف قناعاته الإيديولوجية وأجندته السياسية عبرها. بمعنى أننا لا نتحدّث عن تطابقٍ، فحسب، بين هذه الإدارة وحكومة نتنياهو اليمينية، بل المقصود هنا أن إدارة ترامب، عملياً، اختزلت دورها في أنها رجع الصدى لتلك القناعات الإيديولوجية والأجندة السياسية لليمين الصهيوني الإسرائيلي المتطرّف، وتعمل على فرضها على الفلسطينيين والعالم نيابة عنه.
ما كان هذا كله ليتم، لولا وجود ثلاث شخصيات صهيونية أميركية متطرّفة تحيط بترامب، المعروف بمحدودية الأفق، وانعدام الخبرة السياسية، والعجز عن فهم القضايا المركّبة والمعقدة: صهره ومستشاره، جاريد كوشنر، ومبعوث إدارته السابق إلى منطقة الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات، وسفيره الحالي في القدس المحتلة، ديفيد فريدمان. لا يتسع المجال هنا للاستطراد في خلفية كل واحد من هؤلاء، ويكفي هنا التذكير بالخطة البغيضة الكارثية التي صاغوها مطلع هذا العام لتصفية القضية الفلسطينية، تحت عنوان: “السلام من أجل الازدهار: رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي”، والمشهورة إعلامياً بـ”صفقة القرن”.
الآن، والعالم يترّقب الإعلان المتوقع لحكومة نتنياهو إطلاق إجراءات ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية مطلع شهر يوليو/ تموز المقبل، استناداً إلى الخرائط التي تسعى “صفقة القرن”
“إدارة ترامب، عملياً، اختزلت دورها في أنها رجع الصدى لتلك القناعات الإيديولوجية والأجندة السياسية لليمين الصهيوني الإسرائيلي المتطرّف”إلى فرضها واقعاً، نطالع في الصحافتين الإسرائيلية والأميركية عن خلافاتٍ داخل الحكومة الإسرائيلية بين قطبيها، الليكود، بزعامة نتنياهو، وتحالف “أزرق أبيض”، بزعامة بيني غانتس، وزير الدفاع الحالي. يريد نتنياهو أن يبدأ مباشرة بإجراءات ضم 30% من الضفة الغربية، بحيث تشمل المستوطنات ومنطقة غور الأردن، في حين يدعو غانتس، ووزير الخارجية، غابي أشكنازي، إلى ضم تدريجي وضمن ترتيبات محلية وإقليمية في محاولةٍ لتجنب تفجر الأوضاع فلسطينياً، وتداعيات ذلك المحتملة على العلاقات مع بعض الدول العربية والتقارب مع بعضها الآخر.
المفارقة هنا أن الوسيط بين أطراف الخلاف الإسرائيلي، هو السفير الأميركي، فريدمان. وهذا هو أحد أبرز داعمي الاستيطان أميركياً، وهو من دفع جهود الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها. ولشدّة تطرفه، فإن يهودا أميركيين كثيرين عارضوا ترشيحه سفيراً. ولأن فريدمان، كما نتنياهو، يرى أن وجود ترامب في البيت الأبيض فرصة قد لا تتكرّر، فإنه يضغط بشدة لإيجاد إجماع ضمن معسكر اليمين الإسرائيلي للمضي في قرار الضم، والذي يبدو أن الإدارة تشترطه حتى الآن.
يوم الثلاثاء الماضي عقد اجتماع في البيت الأبيض، ضم كوشنر وفريدمان، ومستشار الأمن القومي، روبرت أوبراين، والمبعوث الأميركي الجديد إلى الشرق الأوسط، آفي بيركوفيتش، من أجل اتخاذ قرار نهائي حول ما إذا كانت إدارة ترامب ستدعم نتنياهو في قرار الضم من دون تأييد غانتس وأشكنازي، ويبدو أن إعلانا رسميا سيصدر من ترامب خلال أيام. هناك ضغط مضاد من داخل وزارة الخارجية الأميركية، ومن الحزب الديمقراطي، كما من خبراء وساسة وأمنيين وعسكريين إسرائيليين، يحذرون من أن مثل هذا القرار قد يعمّق حالة عدم الاستقرار في المنطقة، فضلاً عن تحوّل إسرائيل إلى نظام “أبارتهايد” بشكل رسمي، وهي كذلك فعلاً.
أي أن منطلق الخوف والقلق، حتى من المؤسسة الديمقراطية الرسمية، هو أمن إسرائيل ومصالحها و”يهوديتها”، لا حقوق الفلسطينيين. وهو ما يعيد تأكيد معطى انحياز الولايات المتحدة المطلق لإسرائيل، وإن اختلفت الدرجات والمستويات وأشكال ذلك الانحياز. هذا معلوم للجميع منذ عقود طويلة، غير أن بعضنا اختار أن يتجاهل هذه الحقيقة، وقبل في مرحلة سابقة واشنطن “وسيطاً نزيهاً”، وما زلنا ندفع ثمن ذلك القرار، حتى بعدما أقرّوا، ضمناً، بخطئهم الكارثي ذاك.
أسامة أبو أرشيد
العربي الجديد