تشهد أَكُفهم الملطخة بشحم السيارات وزيوتها، على عقود من العمل المتواصل في مرائبهم بالمنطقة الصناعية في وادي الجوز، التي يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى اقتلاعها وإحلال مشاريع ضخمة مكانها.
ورغم تسلم 40 شخصا منهم أوامر بإخلاء منشآتهم حتى نهاية العام الجاري، فإنهم ينهمكون في عملهم رغم مستقبلهم المهني المجهول.
جمال صلاح، يكاد لا ينظر إلى خارج منشأته سوى عند مناداة أحد الزبائن له ليفحص كهرباء سيارته، وفي الداخل ينهمك في ترتيب البضائع وتفحصها، رافضا فكرة اقتلاعه من المكان الذي يعمل به منذ ثلاثة عقود، ويعيل به أسرته التي تسكن على بُعد 100 متر فقط من مكان رزقه.
يقول صلاح للجزيرة نت “منذ سنوات طويلة يتردد على مسامعنا أن المنطقة الصناعية في وادي الجوز ستتحول إلى فناء، والبلدية من مصلحتها هدم مصالحنا وتهجيرنا وإحلال مشاريعها التهويدية مكاننا”.
تشغل عائلة صلاح أربع منشآت متجاورة في المنطقة الصناعية، ويقول صلاح إنها تعيل أكثر من 30 فردا، وتسلمت المنشآت الأربع أوامر بالإخلاء أمهلتهم بلدية الاحتلال ستة أشهر للانصياع لها.
يضيف صلاح “متر الأرض هنا أغلى من أي منطقة في العالم، لأن وادي الجوز حي إستراتيجي قريب من البلدة القديمة والمسجد الأقصى والأسواق كافة، وتقع منشآتنا في شارع حيوي يشغله العرب ويعمرونه منذ عقود طويلة لهذا تريد البلدية اجتثاثنا منه”.
رفض للاقتلاع
ليس بعيدا عن منشآت عائلة صلاح يلبي الشاب المقدسي علاء حرحش طلب زبونه في إصلاح إطار سيارته في حانوت “إطارات حرحش” المشهور في المنطقة الصناعية، ويواصل علاء مسيرة والده وجده في المنشأة المقامة على وقف عائلة الخطيب والمستأجرة منذ عقود.
وخلال استقباله الجزيرة نت في محله، قال إنه يرفض فكرة الانتقال للعمل بمناطق صناعية إسرائيلية في القدس مثل “عطروت” و”ميشور أدوميم”، لأنه يعمل في شارع حيوي يقصده كل المقدسيين بسهولة وفي حال انتقاله لن يلحق به الزبائن إلى الأماكن البعيدة.
يرفض حرحش أيضا فكرة العمل كأجير لدى صاحب مصلحة يهودي في منطقة صناعية أخرى، بعد إخلائه بالقوة من منشأته، ويقول “وعيتُ على الدنيا وهذا الشارع مخصص للكراجات وتصليح المركبات، ولا أتخيل أن تخصص المنطقة في المستقبل للشركات والكليات التكنولوجية كما ينوون تحويلها”.
تعتزم بلدية الاحتلال في القدس تنفيذ مشروعين ضخمين على أنقاض نحو 180 منشأة للمقدسيين بالمنطقة الصناعية في وادي الجوز، الأول سيكون امتدادا لمشروع “مركز مدينة القدس الشرقية” والآخر “وادي السيليكون”.
يروج رئيس البلدية موشيه ليؤون وطاقمه لمشروع “وادي السيليكون” من خلال الإعلام الإسرائيلي، وعقدت جلسات عدة مع أصحاب الأراضي في المنطقة الصناعية على أنه مشروع الهايتك (التقنية العالية High Technology) الأضخم في القدس، والذي سيبنى على مساحة 200 ألف متر مربع، لإنشاء أماكن تشغيل في مجال الهايتك لـ 10 آلاف خريج وأكاديمي مختص من المقدسيين.
ترويج متواصل
تُغري البلدية أصحاب الأراضي هناك أيضا بخطتها لتطوير الشارع الذي سيحتوي على ممرات وأحواش عريضة ستخصص للعروض الفنية التي ستنعش الحركة الليلية في المكان، وستدر الأموال على أصحاب المصالح الصغيرة في المنطقة.
وصرح رئيس البلدية موشيه ليؤون لصحيفة “إسرائيل اليوم” بأنه يقوم بخطوة تاريخية لتعويض التقصير، وفتح صفحة جديدة مع المقدسيين تقوم على الثقة المتبادلة مع البلدية التي ستفعل كل ما بوسعها لإنجاح هذا المشروع العصري.
هذه التصريحات ليست غريبة على لسان رئيس البلدية الذي يتبع سياسة التغلغل الناعم مع المقدسيين منذ توليه منصبه، وقال إن الهدف من هذا المشروع إعادة تنظيم قطاعي التجارة والصناعة في حي وادي الجوز، من عمل عشوائي إلى تجارة وصناعة منظمتين.
وتبلغ مساحة الأراضي التي من المفترض أن يقام عليها مشروع “وادي السيليكون” -الذي لم تطرحه البلدية حتى اللحظة في الصحف ولم تصادق عليه لجنة التخطيط والبناء في القدس- نحو 30 دونما.
أما الأرض التي تعتزم البلدية ضمها إلى مشروع “مركز مدينة القدس الشرقية”، فتبلغ مساحتها خمسة دونمات وتتبع لوقف عائلة الخطيب، ومن المفترض أن تُبنى عليها مبان سكنية تقع أسفلها مصالح تجارية تتجاهل الاستخدام الحالي للمكان بشكل كامل، وقد تمت المصادقة على هذا المشروع.
وحملت أوامر الإخلاء التي وزعتها البلدية عنوان “وقف الاستخدام الاستثنائي”، معتبرة أن أصحاب “الكراجات” يستخدمون المحالّ بشكل استثنائي ومخالف منذ عقود، رغم أنها تجدد لهم رخصة المهن وتجبي منهم الضرائب سنويا.
وفي هذا الإطار يقول المحامي مهند جبارة، إن مسارات عدة لصالح أصحاب المهن يمكن أن يتقدم بها إلى المحاكم للدفاع عنهم.
ويضيف أن “الأهالي هناك يستخدمون المنطقة للمهن الصناعية منذ ما يزيد على 50 عاما، وفي إسرائيل هناك (قانون أساس) يندرج تحت بند حرية ممارسة العمل، ولا يمكن للبلدية أن تمس بهؤلاء دون توفير بديل مناسب لهم”.
حازم الحرباوي الذي يمتلك مع عائلته نحو دونمين ونصف الدونم، هو أحد أصحاب الأراضي الذين عقدت معهم البلدية عدة جلسات لإقناعهم بجدوى مشروع “وادي السيليكون” الذي تعتزم إنشاءه بعد هدم مصالحهم التجارية الحالية.
يقول الحرباوي للجزيرة نت إن البلدية تتحدث منذ سنوات طويلة عن خطة لإزالة الشق الصناعي في الشارع، لأنه غير مطابق للمنطقة ولملامح المدينة، ويؤيد تطوير الشارع لكنه يرفض إلحاق الضرر بأرزاق أصحاب الكراجات المستأجرين القدماء.
ويضيف أن “البلدية وضعت خطة مشروع وتحاول إقناعنا بها، ونحن إذا وجدنا أن المشروع فيه مصلحة لنا ولمجتمعنا وتطوير منطقتنا ليس لدينا اعتراض، أما إذا وجدنا أن هذا المشروع له أهداف سياسية بعيدة المدى نحن نجهلها حتى الآن، فلن نوافق عليه وما زالت جلساتنا مع البلدية مستمرة”.
يذكر أن الخطة التي تضعها البلدية تشمل منشآت تجارية في الطوابق السفلى ومكاتب في الطوابق العليا، تخصص للشركات التكنولوجية ولكلية تكنولوجية في بنايات شاهقة، وهو ما يرفضه أصحاب الأراضي حتى الآن لأنهم يضغطون لتخصيص جزء من البناء للسكن.
وفي السياق، يقول مدير مركز القدس للحقوق الاقتصادية والاجتماعية زياد الحموري إن البلدية لطالما طرحت مشاريع تدعي أنها لمصلحة المقدسيين، لكنها في الحقيقة توجه التجارة والصناعة والسياحة إلى القدس الغربية لصالح الإسرائيليين.
وأشار الحموري إلى أن الدائرة الاستيطانية حول البلدة القديمة باتت محكمة، وأن ما تمارسه أذرع الاحتلال من سياسات يومية هدفها الضغط الاقتصادي على المقدسيين، لإفقارهم وإضعافهم ودفعهم للهجرة خارج المدينة بأعداد أكبر.
المصدر : الجزيرة