هل حان الوقت لتغيير مفهوم الناتج المحلي الإجمالي؟

هل حان الوقت لتغيير مفهوم الناتج المحلي الإجمالي؟

يعتبر الناتج المحلي الإجمالي مؤشرا اقتصاديا مهما للغاية منذ عشرات السنين، لكنه يعاني من ثغرات كبيرة في قياس تطور اقتصادات دول العالم ومدى رفاهية شعوبها.

في تقرير نشره موقع إيلوردين مونديال الإسباني، قالت الكاتبة تيريسا روميرو إن الناتج المحلي الإجمالي الذي أصبح يحظى بنوع من “القداسة” كمؤشر اقتصادي عالمي، ويتكرر بشكل مستمر في الخطابات السياسية والنشرات الإخبارية وتقارير المؤسسات المتخصصة، يحتاج اليوم إلى مراجعة شاملة تراعي تلك الجوانب المهملة، ولا سيما المتعلقة بجودة حياة الناس وسعادتهم.

وإذا كان مفهوم الناتج المحلي الإجمالي الذي ظهر قبل 8 عقود في ظروف اقتصادية مختلفة جذريا عما نعيشه اليوم، مفيدا في قياس اقتصاد صناعي مثل الاقتصاد الأميركي، فإنه ليس بالضرورة مقياسا مناسبا لفهم اقتصادات البلدان النامية.

ما الناتج المحلي الإجمالي؟
يُعرف الناتج المحلي الإجمالي على أنه إجمالي القيمة النقدية لجميع السلع والخدمات المنتجة في بلد ما خلال فترة معينة، وعادة ما تمتد هذه الفترة لسنة واحدة، وتتمثل الطريقة الأكثر استخداما لحساب الناتج المحلي الإجمالي في: جمع قيمة الاستهلاك الخاص والاستثمار والإنفاق العام والفرق بين الصادرات والواردات.

وتوجد مؤشرات أخرى مستمدة من الناتج المحلي الإجمالي، مثل الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، والناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وهذه المؤشرات الفرعية التي تقدم معطيات أكثر دقة، تثير بدورها إشكاليات إضافية حول الناتج المحلي الإجمالي.

وتعود بدايات ظهور المصطلح إلى عام 1934 في الولايات المتحدة، حين اقترح الخبير في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية سيمون كوزنتس صيغة الدخل القومي لاحتساب خسائر أزمة 1929.

وأصبح الناتج المحلي الإجمالي مؤشرا عالميا موحدا بعد مؤتمر بريتون وودز عام 1944. ومع ذلك، بقيت الولايات المتحدة تعتمد على مؤشر الناتج القومي الإجمالي إلى عام 1991.

من إشكاليات مفهوم الناتج المحلي الإجمالي أنه لا يأخذ بعين الاعتبار إلا الأشياء ذات القيمة النقدية (رويترز)
رفاهية الفرد
ومن أبرز الإشكاليات التي يطرحها مفهوم الناتج المحلي الإجمالي، هو أنه لا يأخذ بعين الاعتبار إلا الأشياء التي لها قيمة نقدية، أي ما يمكن شراؤه أو بيعه، وهو يهمل في المقابل أشياء مهمة في حياة البشر مثل الصحة والاستقرار المهني والمساواة والثقة في المؤسسات الرسمية.

ومن هنا تأتي معظم مشاكل الناتج المحلي الإجمالي، والذي يركز على الإنتاج والاستهلاك بغض النظر عن تكلفته الاجتماعية والبيئية، وجودة ما يتم إنتاجه أو طريقة توزيع الثروة.

والمفارقة أن الناتج المحلي الإجمالي ينخفض كلما كان الناس أكثر تضامنا وسخاء، فإذا قام شخص بقص شعره أو إصلاح سيارته بنفسه، أو قدّم خدمة من هذا النوع لأحد معارفه، فمن المفترض أنه يحرم بلاده من تحقيق معدل نمو أعلى.

مؤشر غير دقيق
وتشير الكاتبة إلى أنه يجب مراجعة الناتج المحلي الإجمالي من وقت لآخر للتكيف مع التغيرات الاقتصادية، وهذا يؤدي أيضا إلى مواقف غريبة، من قبيل نمو الناتج المحلي الإجمالي في نيجيريا بمقدار 509 مليارات دولار بعد مراجعة في عام 2014، حيث نما بنسبة 90% في يوم واحد.

شيء مماثل حدث بشكل مفاجئ في أوروبا عام 2014، حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا بنسبة 0.87%، وإجمالي الناتج المحلي للمملكة المتحدة بنسبة 0.7%، ويرجع هذا الظرف الخاص إلى حقيقة أن هذه البلدان كان عليها الامتثال للوائح الأوروبية التي تلزم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بإدراج بعض الأنشطة غير القانونية في الناتج المحلي الإجمالي.

ويشير هذا إلى الأنشطة التي لم يقع تسجيلها لأنها تتم سرا لتجنب دفع الضرائب أو لأنها منتجات الاستهلاك الذاتي، وتكمن المشكلة في صعوبة معرفة حجمها الفعلي الذي غالبا ما يستهان به، كما يوجد في العالم أعمال غير رسمية أكثر من الرسمية، ويقدر أنها تمثل 10% على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي، ويمكن أن تصل إلى 30% في المناطق النامية.

مؤشرات بديلة
وبالنظر إلى المشاكل التي يطرحها الناتج المحلي الإجمالي، تم اقتراح العديد من المؤشرات البديلة على مدى العقود الماضية لتحليل الحالة الاقتصادية للبلد، أشهرها هو مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، حيث يركز على 3 جوانب مختلفة هي: الحياة الطويلة والصحية، والمعرفة، ونوعية الحياة الكريمة، مع مراعاة نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي.

وذهبت مملكة بوتان لأبعد من ذلك، حيث أخذت أيضا السعادة والاستدامة بعين الاعتبار في مؤشر سعادتها الوطنية الإجمالية، ويضيف المؤشر 30 مؤشرا آخر، بما في ذلك الرفاهية النفسية، والحكم الرشيد، والتنوع، والمرونة البيئية والثقافية، أو صحة المجتمع وحيويته.

وعلى الرغم من أن بوتان شكلت سابقة تاريخية، فإن مؤشر السعادة القومية الإجمالية لا يخلو من المشاكل، لأنه يقوم على أخلاقيات بوذية قوية، ويرسي رؤية متجانسة ذات اتجاه واحد لمفهوم السعادة.

الأمر سيان بالنسبة لمؤشر الرفاهية الكندي الذي أنشئ عام 2011، ويتكون من 8 مجالات: حيوية المجتمع، واستخدام الوقت، والبيئة، والثقافة والترفيه، والمشاركة الديمقراطية، والتعليم، وصحة السكان، ومستوى المعيشة.

على عكس بوتان، تمت استشارة الكنديين سابقا لبناء المؤشر على اعتباراتهم، كما أطلقت نيوزيلندا لأول مرة في عام 2019 ميزانية الرفاهية التي توجه استثمارات الدولة نحو رعاية الصحة العقلية، ودعم مجتمعات الشعوب الأصلية، وضمان رفاه الطفل، وزيادة الإنتاجية الوطنية، والتحرك نحو اقتصاد مستدام، والحفاظ على الخدمات الاجتماعية.

أما أيرلندا، فقد توجهت إلى استكمال الناتج المحلي الإجمالي بمؤشر جديد يتمثل بالأساس في الدخل القومي الإجمالي القابل للتعديل، فقد نما الناتج المحلي الإجمالي الأيرلندي بنسبة 26.5% عام 2015، وهو رقم مستحيل بالنسبة للاقتصاد المتقدم الذي يتناقض مع نسبة 7.8% المتوقعة.

ويعود تشويه المؤشر إلى الإعفاءات الضريبية السخية للحكومة الأيرلندية، والتي اجتذبت استثمارات كبيرة إلى البلاد من مختلف الشركات المتعددة الجنسيات.

ما يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي
وإذا كان كل مؤشر يسلط الضوء على شيء مختلف، فإن موقف البلدان في ترتيبها يختلف، فقد احتلت أوروغواي المرتبة 79 في قائمة البلدان ذات أعلى ناتج محلي إجمالي عام 2018، لكنها احتلت المرتبة 57 في مؤشر التنمية البشرية عام 2019، وجاءت في المركز 26 في ترتيب السعادة العالمي في سنتي 2016 و2018.

في المقابل تقع الولايات المتحدة -رائدة العالم في الناتج المحلي الإجمالي- في المرتبة 15 و18 في مؤشر التنمية البشرية والسعادة على التوالي.

مع استمرار نمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، ازداد التفاوت الاقتصادي ومعدل الانتحار، كما زاد مستوى التوتر والقلق والغضب لدى الأميركيين بشكل كبير في العقد الماضي، ولكن إذا اقتصرت التحليلات على الناتج المحلي الإجمالي وحده، فسيبدو أن كل شيء يسير على ما يرام.

وليست هذه الأدوات سوى بعض من العديد من الأدوات التي اقترحت في السنوات الأخيرة للتغلب على قيود الناتج المحلي الإجمالي. ورغم أن جميعها فيها مشاكل، فإن لديها أيضا شيئا واحدا مشتركا يتمثل في وضع الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية في المقدمة.

المصدر : الصحافة الإسبانية