تتردد عبارة أن إيران ما بعد الاتفاق النووي تختلف عن إيران التي كانت قبل الاتفاق. يتابع أصحاب العبارة المعلومات المتعلقة بالاتفاق ذاته، مثلما يتابعون كلام المسؤولين الإيرانيين وممارساتهم، في محاولة لالتقاط جديد يؤكد الانتقال الإيراني من حالة الماقبل إلى حالة المابعد.
على فرضية تبدل الوضعية الإيرانية، التي هي فرضية واقعية يؤكدها حصول الاتفاق بما ظهر منه وما استتر، بنى كثيرون افتراضات بعضها واقعي وبعضها الآخر لم يوفق في أن يكون واقعياً دائماً. في حزمة الفرضيات قال البعض بهزيمة إيران وخضوعها، وقال بعض آخر بانتصارها في معركة مفاوضاتها الطويلة، وذهب فريق إلى رفع شعار التخلي الدولي عن المنطقة وإطلاق يد إيران فيها، وتفاءل فريق بحلول سحرية بعد الاتفاق النووي، الذي ستتوالى تفاعلاته في صيغة حلول لكل الصراعات الجارية في الإقليم. إذاً جرى ربط كل افتراض سياسي بنتائج فورية حيناً، وبنتائج أبعد من الفورية بقليل في بعض الأحيان. لكن السؤال يظل معلقاً حول: ما هي الافتراضات الواقعية حول إيران ودورها بعد الاتفاق النووي؟ وما هي العوامل التي ستؤثر في هذا الدور لدى الذين قاموا بصناعته دولياً، وعند الذين قبلوه إيرانياً؟ ومع السؤالين الآنفين لا بد من أن يصل السؤال إلى جيران إيران، فماذا عن هؤلاء ما بعد الاتفاق الإيراني مع أولياء الأمر النووي؟ وماذا سيصيب سياساتهم من تبدلات بالتناسب مع ما لديهم من معلومات ومن افتراضات؟
سياسياً، لا ضرورة للتسرع بالقول أن إيران ستقوم بانعطافة حادة وسريعة تطاول مختلف سياستها التدخلية في الخارج، أو تصيب آليات صناعة القرار السياسي في داخلها. كذلك ليس سياسياً كفاية القول إن إيران لن تباشر سياسات متدرجة متأنية تؤكد الاستعداد للانتقال إلى أداء سياسي جديد، ربطاً بالمصالح التي تسعى إليها، وبكيفية تأمين هذه المصالح، وبتمكينها من الحصول على الحد المقبول منها، بعد أن كانت هذه المصالح مقيدة بقيود الحظر الدولي وبرقابته.
لقد جاء الاتفاق الإيراني بعد مسار تفاوض طويل، أي بعد مراكمة الاشتباك المديد الذي قام بين «الغرب» وإيران، وبعد ولادة قناعة سياسة لدى المتحاربين خلاصتها: أن الاتفاق يشكل ممراً إلزامياً إلى إعادة هيكلة المصالح لكل الأطراف، ضمن إعادة الهيكلة هذه ثمَّ رابح أكثر وخاسر أقل، لكن الحصيلة تشكل نقطة تقدم تتيح الانتقال إلى سياسة المابعد التي يكثر الحديث عنها هذه الأيام.
من الإشارات الآنية التي تحمل في طياتها قراءات مختلفة، ما يجري من تطورات ميدانية متسارعة في اليمن، ومغزى زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى لبنان وسورية، وما بينهما كل الكلام الذي يؤكد على ضرورة الحوار بين إيران وجيرانها، لأن «الحوار هو السياسة الأنسب لحل الخلاف»، على حد تصريح المسؤول الإيراني.
يمنياً، لا بد من القول إنه من اللافت التقهقر المتوالي لتحالف الحوثي – علي عبد الله صالح، وتقدم قوات الرئيس عبد ربه هادي مدعومة من التحالف العربي، من دون ضجيج خطابي مناوئ من قبل إيران أو من قبل بعض الناطقين باسمها. هذه إشارة تقرأ على محمل الاستعداد لتقديم «تنازل» سياسي في منطقة الخليج الحساسة، مما يعني أن الضيف الإيراني يرسل «هديته» إلى مضيفه قبل قدومه، وينتظر في المقابل التكريم وحسن الضيافة.
الإشارة الأخرى التي حملها وزير خارجية إيران تختلف في جوانب كثيرة منها عن الإشارة اليمنية، فالزائر بدا وكأنه في جولة لتفقد «إقليمه»، فاطمأن إلى لبنان وأعطى الكلام المناسب المفيد المساعد على استقرار أحواله كما هي عليه، وتابع سيره إلى سورية فزار «معتمده» الذي بات غير موجود إلا من خلال التذكير الإيراني به، تذكيراً يحمل المساومة على وجوده وعلى خروجه، بما يتلاءم والوضع الذي بات لإيران، بعد أن باتت هي الأخرى «مرتاحة» دولياً.
الإشارتان جديتان وحقيقيتان، على اختلاف الوظيفة والدور لكل منهما، وهذا يلقي الكرة في ملعب الملتقطين. من ضرورات «الالتقاط»، عدم التشبث بذات الخطاب السياسي الذي كان سائداً حيال إيران، والانتقال إلى كلام آخر يبني على التغير مقتضاه، وعلى الذين افترضوا انتصاراً إيرانياً أو هزيمة إيرانية أو تخلياً دولياً… على هؤلاء جميعاً أن يبادروا بسياسات تستثمر إيجابياً حيث يجب، وتعرقل وتكبح وتمنع مفاعيل الخسارة حيث يجب. وإذا كان الجوار ضاغطاً بثقله التجاوري، أي لا فكاك من أحكام الجيرة، فلماذا لا يكون الهجوم على الجوار بسياسة حسن الجوار، أي بتحديد ماذا يريد كل جار لذاته ولغيره، بحيث تحدد نقاط الخلاف ونقاط الاتفاق الممكن، ويجري السجال فوق أرضها. وإذا كان «الدولي» مصدر قلق وتلاعب وتخلّ عندما تدق ساعة قطاف المصالح، فما هي السياسات التي تمنع بقاء هذه الدولة العربية أو تلك، أو مجموعة من الدول العربية، مادة سهلة لتقديمها كجائزة اتفاق، أو كضحية محتملة له؟
إيران ما بعد. ماذا عن «العرب» ما بعد؟ دول مجتمعة وكل دولة على حِدة. سؤال يفرضه واقع أن جديداً يولد كل يوم تحت شمس السياسة.
أحمد جابر
صحيفة الحياة اللندنية