العراقيون تحت خطر سيف ديموقليس

العراقيون تحت خطر سيف ديموقليس

هحخهحهخ
قال لي، وقد اعتاد محاورتي عبر الهاتف في شؤون بلادنا وشجونها، “أقول لك إن الانتفاضة توشك أن تسرق من أيدي أصحابها الشرعيين، وأن أطرافاً مجهولة معلومة، بعضها عراقي، وبعضها إقليمي، شرعت تتواطأ في الظلام، ليس لوأد خطوة الإصلاحات الأخيرة التي حققها الشباب العراقيون، بجهدهم وثباتهم فحسب، بل ولخطف الانتفاضة وإجهاضها، واستغلال اللحظة لتقنين إخضاع العراق لولاية الفقيه، وتكريس تبعية حكومته لطهران!”.
واستطرد، من دون أن ينتظر رداً مني: “انقل على لساني أننا إذا لم نتحد، إذا لم نتناس خلافاتنا الصغيرة، إذا لم نتوافق على تشكيل لجان تنسيق في بغداد والمحافظات، تعمل على إدامة الزخم الشعبي، وتضع منهاجاً عملياً وواضحاً يقودنا إلى ما نريد، فسوف تسقط انتفاضتنا بيد الأغراب، ونقع جميعاً تحت سيف “ديموقليس”، ولن ينقذنا أحد”. وقبل أن يواصل محدثي كلامه، انقطع الاتصال مع بغداد، وأحسب أن يداً خبيثة فعلت ذلك.
عدت أتابع الأخبار، وأنا قلق بعدما سمعته، وما كنت توقعته. وفي الأخبار، وجدت ما زاد من قلقي: اختراق تظاهرة بغداد من رجال مليشيات يرفعون رايات سوداً، ويهتفون بهتافات ذات منحى طائفي، وبعضهم حمل عصياً وأدوات جارحة، وأمعن ضرباً في متظاهرين تحت أعين رجال الأمن، كما جرحت ناشطة واحدة على الأقل.
وفي الأخبار أيضاً بعث الروح فجأة في “برلمان الشباب”، بعد سبع سنوات من دخوله في غرفة الإنعاش، وتسمية لجنة تنفيذية له، عقدت اجتماعاً عاجلاً تحت رعاية مسؤولين نافذين، لاحتواء التظاهرات لصالح جهة طائفية معروفة، ما استدعى رد فعل معاكساً في تظاهرة شبابية، رفعت لافتة “أنا شاب، وما يسمى برلمان الشباب لا يمثلني”.
وأيضاً، ودائماً في الأخبار، تحذيرات من قادة ميليشيات وأحزاب إسلاموية حاكمة من محاولة “جهات علمانية إسقاط الإسلاميين وتجربتهم الإصلاحية”، وتناغم ذلك مع إشارات صادرة من طهران عن أن “مثيري الاحتجاجات في العراق فئة غير مسلمة”.
وفي الأخبار هروب نوري المالكي إلى طهران، على الرغم من قرار منع سفر المتهمين بارتكاب جرائم فساد، واستقباله من مسؤولين إيرانيين كبار، ووصفه بأنه “أحد أبرز قيادات المقاومة والممانعة”، وتحذير طهران العبادي من السعي إلى محاكمته، بعد إدانته في جريمة سقوط الموصل، واعتبار أية خطوة ضده خطاً أحمر، لا تسمح طهران به، وترافق ذلك مع وصول قاسم سليماني إلى بغداد في مهمة “سياسية وعاجلة”.
لن يغفل المتابع عن أن يرأى وراء كل رماد الأخبار هذا وميض نار يوشك لهيبها أن يتصاعد، وتنبئنا القراءة الأولى أن الانتفاضة تواجه مخاطر صعبة، أقلها خطر الاستحواذ عليها من الأحزاب الاسلاموية نفسها، أو خطر اختطافها وإجهاضها، أو حتى خطر استغلالها لثبيت دعائم سلطة توشك أن تسقط، ولترقيع “العملية السياسية” الطائفية، بما يعطيها عمراً أطول، ودور إيران مكشوف ومعلن، فهي لا تطيق خسارة قلعتها في العراق، وقد بنتها عبر سلسلة من الإغراءات والتهديدات والفتاوى والوصايا الدينية، وأوراق التاريخ المتهرئة والمزورة، وعزّزتها بعشرات المجاميع والمليشيات والجيوش السرية التي تتبع خطوط الدم، وهي لا يمكن أن تتخلى عن رجالها الذين دربتهم وأعدتهم لأيام صعبة كهذه، ومدتهم بالسلاح والمال، ومكّنتهم من الوصول إلى السلطة، وخسارة العراق بالنسبة لها تعني تراجع مشروعها العرقي- الطائفي، وانكفاءه إلى الداخل، والعراق بوابتها الغربية على العالم، ولها أطول حدود معه، وتطويعه وضمه لممتلكاتها يفتح لها أبواب العالم، وقد تنازلت عن بعض اشتراطاتها لمشروعها النووي، لا لسواد عيون واشنطن، ولكن، لتكريس الاعتراف بها على أنها القوة الإقليمية الأكبر، فلا يعقل أن تتحمل خسارة بوابتها الغربية، ولا يخطر في بالها أبداً أن تسمع، بعد هذا كله، صيحات حشد ساحة التحرير: “إيران بره بره، بغداد تبقى حرة”.
ثمة، في المقابل، ما يرغمنا على الاعتراف بأن الانتفاضة توشك أن تفقد بعض وهجها وألقها، وأيضا بعض زخمها وعنفوانها، وما يزيدنا قلقاً ما يحدث داخل ناشطيها أنفسهم، تعدد واجهاتهم، تناقض شعاراتهم، تشتت رؤاهم، صحيح أن الانتفاضة كانت عفوية وتلقائية، تأسست على شعور جماعي بالظلم والمهانة اللذيْن أحاقا بأهل البلاد، منذ أكثر من عقد، صحيح أنها أرعبت الخصوم، لكنها أيضاً وحّدتهم، والمواجهات القادمة ستكون أصعب، حيث هي أمام تحد مصيري، إما الاستمرار أو الانكفاء. ولذلك، على ناشطيها أن يفكروا بشكل مختلف.
بعد هذا آمل من محاوري الذي قطعت يد خبيثة خط الاتصال الهاتفي معه أن يتحاور مع رفاقه ومجايليه في ما يمكن فعله، والذي رجله في الساحة، ويده في النار، ليس كمن يتأمل المشهد من بعيد، ويعطي نصائحه.
عبداللطيف السعدون
صحيفة العربي الجديد