لا شك في أن وصول مصطفى الكاظمي إلى رأس الحكومة العراقية، وما ترتب عنه من تجاذبات بين أحزاب السلطة، كان دليلا واضحا لما يسود العملية السياسية العراقية من إشكاليات سياسية وأيديولوجية، يعود أغلبها إلى فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي، وبدء الهيمنة الإيرانية، حيث لعبت أحزاب الدين السياسي التابعة للمشروع القومي الفارسي، دورا فاعلا في المشهد العراقي، سواء بتكريس التبعية لإيران واستراتيجيتها القومية، أو لدعم بناء نظام حكم طائفي ينهي على ما تمتع به العراق من انفتاح سياسي واجتماعي، طيلة الفترات السابقة.
ومنذ تكليف مصطفى الكاظمي، تشكيل الحكومة، كشفت مفاوضات تقديم الكابينة الجديدة في العراق، عن تراجع ضئيل في تأثير أحزاب إيران الرئيسية، كحزب الدعوة الإسلامية، الذي سبق أن احتكر السلطة بين عامي 2005 و2018، بعدما استطاعت القوى السياسية الشيعية والسنية والكردية، من الهيمنة على الحقائب المهمة، على الرغم مما قيل، أو اُشيع عن العلاقة السابقة لرئيس الحكومة الجديد بحزب الدعوة، ومن ثم نفيه لها، من خلال تفسير علاقته السياسية بحزب الدعوة، على أنها شبيهة بعلاقته بجميع القوى السياسية الشيعية.
ولكن يبدو ان أسباب تكليف رئيس الوزراء في هذه الفترة، وفي بيئة متوترة كالتي يعيشها العراق اليوم يتلاءم مع طبيعة خطورة المشهد السياسي العراقي وعلاقته المباشرة مع تطورات الصراع الأمريكي ـ الإيراني، فبالإضافة إلى اتساع حركة الاحتجاج التي تشهدها البلاد، واقترابها من المنطقة الخضراء، كادت عملية مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، أن تغرق البلد في حرب دموية جديدة بالوكالة عن صراع إيران مع الولايات المتحدة الأمريكية في العراق. من هنا، تبدو الأسباب الحقيقية لوصول مصطفى الكاظمي، أكثر ارتباطا مع ملف الأزمة الأمريكية ـ الإيرانية عنها من ملف الأزمة الداخلية العراقية، نظرا لقبول طهران بمرشح الإدارة الأمريكية، رغبة للوصول لحل مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية، من خلال القبول باللعبة التي تقوم وترتكز على عدم رفض رئيس وزراء، لا تستطيع إيران من استخدام سلطته بالطريقة نفسها، التي استعملتها مع رؤساء الوزارات السابقة، من خلال شبكة عميقة في الدولة. ولهذا ترجمت نصوص مرسوم إعادة القائد السابق لقوات مكافحة الإرهاب عبد الوهاب الساعدي، الذي أقاله عادل عبد المهدي بأمر من إيران، لرئاسة قيادة جهاز مكافحة الإرهاب، المعروف في البلاد باسم الفرقة الذهبية، عن مدى حرص رئيس الوزراء الجديد على إعادة توازن المعادلة السياسة والاجتماعية للجيش العراقي، ومؤسسته العابرة للطوائف والأعراق.
انتفاضة تشرين بلورت الحس الوطني وتجاوزه للطائفة، التي أوقعت السلطة والموارد تحت سيطرة الأحزاب الحليفة لإيران
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن «الفرقة الذهبية»، التي أسستها الولايات المتحدة الأمريكية، اختيرت بمعايير وتدريب صارم، مماثلين للمستخدمين داخل منظومة العمليات الخاصة الأمريكية، بحسب التقرير، الذي نشره «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط» الذي وصفها بأنها «أفضل ما أنشأته الولايات المتحدة في العراق». وهذا ما يدفعنا إلى فهم وإدراك الأسباب والنتائج المرجوة من الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق، والأهمية السياسية والعسكرية التي تحملها واشنطن في تعاملها الاستراتيجي المقبل مع بغـداد، وحاجتها الماسة لدعم حكومة مصطفى الكاظمي، لضمان بقاء القوات الأمريكية في بلاد الرافدين. وهذا ما يرجح ويدعم الرؤية المتمثلة في أن النفوذ الأمريكي أصبح هو الأقوى والأكبر من النفوذ الإيراني، سواء على مستوى سياسة حكومة مصطفى الكاظمي واستراتيجياتها داخل المنظومة السياسية والعسكرية، وتزامن ذلك مع التطورات الأخيرة الناتجة عن رفض الشارع العراقي للتأثير المذهبي الإيراني وتدخله الخطير في الشؤون الداخلية العراقية، نتيجة اختراق النظام الإيراني للنظام السياسي والاقتصادي العراقي، وتقسيم المجتمع العراقي عقائديا عن طريق الميليشيات المسلحة المنتشرة في جميع مدن العراق.
وهنا لا بد من التأكيد على الدور الكبير لانتفاضة تشرين، في بلورة الحس الوطني وتجاوزه لحاجز الطائفة، نتيجة لتغييب إدارة الدولة العراقية طيلة ستة عشر عاما ووقوع السلطة والموارد تحت سيطرة الأحزاب السياسية الحليفة لإيران، وكما أن نظام المحاصصة الطائفية كان مخيبا لطموحاتهم، ومخالفا لارتباطهم بتراب بلدهم وقدسية هويتهم. ولكن هذا قد لا يعني قبول العراقيين بمبدأ الحوار الاستراتيجي، من أجل الوصول إلى اتفاق يسمح باستمرار الاحتلال الأمريكي لبلدهم، ولكنه قد يعني رغبة غالبية الشارع العراقي للدفاع عن هويته الوطنية التي غُيبت من قبل الأحزاب الحاكمة.
لا شك في أن أهمية الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق، يكمن في سياق تحديد مستقبل الشراكة، والتزام العراق بحماية القوات الأمريكية المتبقية والمنشآت الدبلوماسية الأمريكية، وهذا ما سيفشل مطالب حلفاء إيران في البرلمان، الذين دعوا إلى انسحاب كامل للقوات الأمريكية وتجريدها من حصانتها من المحاكمة، بموجب القوانين المحلية، في الوقت الذي تتزامن هذه المحادثات مع استمرار الاحتجاجات الشعبية ضد نفوذ إيران، وفساد النظام العراقي التابع لها من جهة، والصعوبات الكبيرة التي يواجها الاقتصاد الإيراني، الذي لم يعد باستطاعته الاستمرار بدعم الأحزاب والميليشيات، ما سيدفع النظام العراقي، المفلس اقتصاديا واجتماعيا، جراء خواء خزينته وانتشار الوباء، أن يكون أكثر تفهماً للنصائح الأمريكية منه للنصائح الإيرانية. وهذا ما سيدفع بالنظام السياسي العراقي بعيدًا عن مدار إيران. من هنا يبدو واضحا، أن الأهداف التي رسمت للعلاقة الأمريكية العراقية المقبلة، من خلال آلية إطار الحوار الاستراتيجي، تكمن في استمرار الإرادة الأمريكية لإضعاف نفوذ إيران في العراق، ولكن هذا لا يعني انتهاء مشروعها القومي على المدى القريب، على الرغم من كونها الحلقة الأضعف في مسلسل الصراع الأمريكي ـ الإيراني منذ 2003 نتيجة لمقاومة العراقيين للنفوذ الفارسي لبلدهم الذي أعلنوه للعالم في انتفاضة تشرين.
أمير المفرجي
القدس العربي