شهد الوضع العسكري في ليبيا، أخيرا، تغيراً كبيراً في موازين القوى لصالح قوات حكومة الوفاق الوطني في العاصمة طرابلس، على حساب تقهقر قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وخسارتها مناطق عديدة كانت تحت سيطرتها في الغرب الليبي، فيما تواصل قوات حكومة الوفاق التقدّم باتجاه مدينة سرت الإستراتيجية. وتعود أهم حيثيات هذا التغير الميداني إلى الدعم التركي لقوات حكومة الوفاق الذي قُدم لها، خصوصا بعد أن وقع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج، اتفاقيتين أو مذكرتي تفاهم، في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تتعلق الأولى بالتعاون الأمني والعسكري، والثانية بتحديد مناطق الصلاحية البحرية بين البلدين، حيث قدمت تركيا في ظل ذلك مساعدات عسكرية إلى قوات الحكومة الليبية، الأمر الذي أحدث تغيراً نوعياً في موازين القوى على الأرض، وأظهر تحسّناً في القدرات العسكرية لحكومة الوفاق، وتحديداً في التفوق الجوي.
وتطرح متغيرات الوضع الليبي أسئلة عديدة بشأن الدور التركي في ليبيا، والعلاقات التركية الليبية التي تضرب جذورها التاريخية إلى عهد الدولة العثمانية، حيث يرجع بعض الساسة الأتراك سبب وجود تركيا في ليبيا إلى أن لديهم “تاريخا قديما مع ليبيا”، وأنهم ليسوا “دولة جديدة أو أجنبية بالنسبة إلى ليبيا، ولدينا أكثر من 500 سنة من التاريخ المشترك”، حسب الناطق باسم الحكومة التركية، إبراهيم كالن، الذي أضاف أن الدعم العسكري من بلاده كان بالاتفاق “مع الحكومة الليبية الشرعية، وبطلب منها، ويعلم الجميع أن الشركات التركية تعمل منذ سنوات في ليبيا، كما أن المصابين من الحرب هناك تمّ علاجهم في تركيا، وإلى الآن يواصلون تلقي العلاج”.
في تاريخ العلاقات
تعود جذور العلاقات التركية الليبية إلى مرحلة الغزو الإسباني لليبيا، حين استنجد الأهالي المقاومون له بالدولة العثمانية في عام 1552 لمساعدتهم في تحرير بلادهم منه، ودشّنت تلبية
“يعزو ساسة أتراك سبب وجود بلدهم في ليبيا إلى أن لديهم “تاريخ قديم مع ليبيا”، وأنهم ليسوا دولة جديدة أو أجنبية هناك” الدولة العثمانية طلبهم لحظة تاريخية، دخلت فيها ليبيا طوراً جديداً في العلاقة المباشرة مع العثمانيين الأتراك الذين كان لهم دور مهم في الدفاع عن ليبيا، ومعها بلدان المغرب العربي الأخرى، وتحت راية السيادة الإسلامية فيها، حيث شكّلت ليبيا، في ذلك الوقت، كياناً سياسياً مستقلاً، وخصوصا في العهد القرمانللي، ثم قام العثمانيون بتحديث أسس الدولة في ليبيا خلال مرحلة التنظيمات العثمانية. وعندما تعرّضت ليبيا إلى الاحتلال الإيطالي، أرسل العثمانيون قواتهم من أجل الدفاع عن ليبيا في عام 1911، وكان على رأس تلك القوات التركية أنور باشا، ومصطفى كمال. ويحتفي الأدب التركي بالاسمين، كما يحتفي بأحمد السنوسي، الذي جاء من ليبيا آنذاك للمشاركة في حرب الاستقلال التركية. ويروي الأتراك قصصاً عن الأمير عثمان فؤادي، الذي كان يقود جبهة القتال في ليبيا عند انهيار الدولة العثمانية. وبعد أن احتل الطليان ليبيا، تشكلت حكومة ليبية في المنطقة الشرقية، معظم شخصياتها كان يقيم في تركيا. ويذكر كتّاب ومؤرّخون أتراك بفخر أنه عندما تشكلت المملكة السنوسية بعد جلاء الإيطاليين، فإن أول زيارة خارجية للملك إدريس السنوسي كانت إلى تركيا، وطلب أن يكون التركي سعد الله كول أوغلو أول رئيس للوزراء في حكومة المملكة الليبية بين 1949 و1952.
وعرفت العلاقة بين تركيا وليبيا فتوراً بعد انقلاب 1969 على الملك السنوسي، والقضاء على المملكة الليبية، خصوصا أن السنوسي انتقل آنذاك إلى تركيا قادماً من اليونان، وشكل ذلك حرجاً للساسة الأتراك، انعكس في تعاطيهم مع تحوّل ليبيا جمهورية. ثم شهدت علاقات البلدين فترات من التواصل والصداقة، وأخرى من التراجع والقطيعة، لكنها لم تصل إلى حدّ التوتر والعداء، على الرغم من أن معمر القذافي اعتبر المرحلة العثمانية مرحلة احتلال أجنبي، ووصفه بالاستعمار البغيض، مثل الاحتلال الإيطالي والغزو الإسباني.
ومع منتصف سبعينيات القرن العشرين، بدأت العلاقات التركية الليبية تعود إلى طبيعتها، عبر تبادل بعض الزيارات الوزارية بين البلدين، وإبرام عقود تجارية، ثم تسارعت خطوات التقارب والتبادل الاقتصادي منذ بداية التسعينيات، وصولاً إلى العام 2011. وحصلت الشركات التركية على عقود مهمة في مشروعات البنى التحتية في ليبيا، ووصل حجم التّبادل التجاري بين البلدين في عام 2010 إلى قرابة 10 مليارات دولار، فيما بلغت قيمة مشروعات واستثمارات قطاع البناء نحو 15 مليار دولار.
الموقف من الثورة
عرفت المواقف السياسية التركية لحظات تردّد وارتباك شديدة حيال الثورات العربية، كما بدا مع بداية الثورة الليبية، “ثورة 17 فبراير” في العام 2011، حين عارض القادة الأتراك أي
“عرفت العلاقة بين تركيا وليبيا فتوراً بعد انقلاب 1969 على الملك السنوسي، والقضاء على المملكة الليبية”تدخل عسكري دولي ضد ليبيا، ثم عرض رئيس الوزراء في حينه، رجب طيب أردوغان، وساطة لدى العقيد معمر القذافي كي يوافق على وقف إطلاق النار. وكان المحرّك الأساس في ذلك حرص الطرف التركي على حماية مصالحه في ليبيا، حيث كان يوجد حوالي 25 ألف تركي من العمال والفنيين الأتراك، إلى جانب وجود أكثر من مائتي شركة تركية. ولكن المسؤولين الأتراك كانوا يرفضون القول إنهم يقدّمون المصالح التركية على المبادئ في موقفهم من موجة الثورات العربية، مع أن مواقفهم عرفت اختلاطاً بين جملة من المصالح والمبادئ.
وكان الموقف التركي مع بداية الثورة الليبية مبنيا على حسابات متداخلة، إذ كانت الحكومة لا تريد أن تظهر قوة مشاركة في التدخل العسكري الخارجي في ليبيا، كونه يخالف محدّدات ومبادئ وضعتها لسياستها الخارجية حيال الثورات العربية، ولذلك كان الموقف التركي حازماً في رفض التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو). ولكن مع تأزم الوضع الليبي، طالب المسؤولون الأتراك القذافي بالتجاوب مع مطالب الشعب، وعدم استخدام العنف، واعتبروا أن مواقف تركيا تحدّدها المصالح الوطنية لتركيا قبل أي شيء آخر. غير أن الأتراك عادوا ووافقوا على تدخل “الناتو” تحت تأثير الضغوظ الغربية، واشترطوا عدم مشاركة تركيا في العمليات العسكرية. ثم طرحت تركيا وساطةً، أخذت في الاعتبار كل مكونات المجتمع الليبي، بما فيها القذافي وأفراد عائلته، ودعت إلى انتخابات نيابية ورئاسية، لكنها لم تلق قبول الأطراف الليبية، ولم تأخذ نصيبها من الاهتمام الدولي، بل ازدادت الضغوط الغربية على الحكومة التركية، ما جعل موقف أنقرة حيال الأزمة في ليبيا يتغير، حيث بدأت بالاتصال مع أعضاء في المجلس الوطني الانتقالي الليبي، من دون أن يؤدي ذلك إلى قطع الاتصالات مع القذافي. ثم تطور الموقف التركي حيال ليبيا، حين دعاه المسؤولون الأتراك إلى التنحّي، ووجهوا دعوة إلى رئيس المجلس الانتقالي الليبي، مصطفى عبد الجليل، لزيارة أنقرة. ثم اعترفت تركيا بالمجلس، في الثالث من يوليو/ تموز 2011 بوصفه ممثلاً شرعياً للشعب الليبي.
وبعد سقوط نظام القذافي، ركّز الساسة الأتراك، في خطابهم، على وحدة الأراضي الليبية، وعلى أن يحقق التغيير السياسي مطامح الشعب الليبي. وفي 16 سبتمبر/ أيلول 2011، زار رئيس وزراء تركيا آنذاك، أردوغان، طرابلس وبنغازي، والتقى رئيس المجلس الانتقالي
“تطورات الصراع في ليبيا، وعدم قبول الأطراف المتصارعة بالاتفاقيات السياسية الأممية، جعل من تركيا طرفاً متدخلاً في الصراع”الوطني واعضاءه. وكانت الزيارة مؤشراً على الدعم التركي للثورة الليبية، وعلى الاهتمام بالوضع الليبي الجديد.
وحاولت تركيا استعادة علاقتها الاقتصادية مع ليبيا من بوابة دعم الاستقرار، ومساندة حكومة مركزية قادرة على إنهاء الفوضى التي أضرت بالمصالح التركية، ولكن انهيار الدولة وانفراط عقدها، إلى جانب انتشار المجموعات المليشياوية والكتائب الفصائلية، والتدخلات الخارجية الدولية والإقليمية في ليبيا، أفضى ذلك كله إلى تحوّل ليبيا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، خصوصا بعد قيام اللواء المتقاعد خليفة حفتر بعملية عسكرية للسيطرة على مناطق غرب البلاد في بداية عام 2014، ومالت تركيا إلى دعم قوات حكومة الوفاق والفصائل العسكرية الداعمة لها، بعد التوصل إلى الاتفاق السياسي الليبي الذي وُقِّع في الصخيرات المغربية، برعاية أممية، في ديسمبر/ كانون الأول 2015. وبدأ الدعم العسكري التركي يأخذ طابعًا علنياً، بعد توقيع الحكومة التركية وحكومة الوفاق الوطني، في 27 نوفمبر/ تشرين الأول 2019، مذكّرتي تفاهم بشأن التعاون الأمني والعسكري والسيادة على المناطق البحرية في البحر الأبيض المتوسط.
أهمية ليبيا
بصرف النظر عن تاريخية العلاقات الثنائية، تعتبر ليبيا، في الحسابات والمصالح التركية، دولة مهمة، إذ تعدّ من قلائل الدول التي عيّن لها الرئيس أردوغان مبعوثاً خاصاً في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، الأمر الذي يكشف مكانة ليبيا وأهميتها بالنسبة إلى جملة مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية لتركيا فيها، بوصفها أحد بلدان الثورات العربية المطلة على البحر الأبيض
“عيّن أردوغان مبعوثاً خاصاً في أكتوبر 2014، الأمر الذي يكشف مكانة ليبيا وأهميتها بالنسبة لتركيا”المتوسط، إضافة إلى أنها تشكل إحدى البوابات إلى القارّة الأفريقية. وفضلاً عن أهميتها الجيوسياسية، فإن ليبيا تعد الدولة التي تمتلك أكبر احتياطي نفط في أفريقيا، ويقدر بحوالي 40 مليار برميل، ويشكل نسبة 3.76% من الاحتياطي العالمي، إضافة إلى احتياطيات غاز تُقدَّر بحوالي 54.6 تريليون قدم مكعب. وهناك مشروعات معلقة لتركيا في ليبيا قيمتها 19 مليار دولار وأكثر، إلى جانب طموح الشركات التركية بتنفيذ مشاريع كبرى في عملية إعادة إعمار ليبيا. ولذلك تتجاوز المصالح التركية في ليبيا المصالح الاقتصادية، لتشكل جزءاً من الاستراتيجية التركية، الطامحة إلى زيادة دور تركيا ونفوذها ومكانتها في سياق التنافس مع قوى دولية وإقليمية أخرى، من ضمنها فرنسا وإيطاليا وروسيا ومصر والإمارات وإسرائيل وقبرص واليونان، خصوصا أن تركيا تخشى من محاولات عزلها واستبعادها من المنافسة على كميات الطاقة ومواردها الكبيرة المكتَشَفة في منطقة شرقي المتوسط، المقدرة بحوالي 3.5 تريليونات متر مكعب من الغاز الطبيعي و1.7 مليار برميل من النفط. إضافة إلى دخول تركيا ميدان التنافس التاريخي والنزاع على السيادة على بعض الجزر في البحر المتوسط مع اليونان.
أهمية الاتفاقيات
مع اشتداد التدخل الدولي والإقليمي في ليبيا، وشن الجنرال خليفة حفتر، مطلع إبريل/ نيسان 2019، حملة عسكرية على العاصمة طرابلس، وازدياد التوترات والتنافس على الطاقة الهامة في مناطق شرقي المتوسط، عقدت كل من إسرائيل وقبرص واليونان، تفاهمات تخص هذه
“مذكرتا التفاهم الأمنية والبحرية مع حكومة الوفاق توسّعان الجرف القاري لتركيا، وتوفران لها الغطاء السياسي والقانوني لنفوذها في شرقي المتوسط” المنطقة، عبر إنشاء منتدى غاز شرقي المتوسط، استُبعدت منه تركيا، الأمر الذي دفع الساسة الأتراك إلى توقيع مذكرتي التفاهم الأمنية والبحرية مع حكومة الوفاق. وحظيت الاتفاقيتان بأهمية كبيرة بالنسبة إلى تركيا، لأنهما توسّعان جرفها القاري، وتوفران لها الغطاء السياسي والقانوني لنفوذها في شرقي المتوسط، خصوصا أن الاتفاقية الأمنية تبيح لتركيا استخدام الأجواء الليبية وإقامة قواعد عسكرية والدخول إلى مياه ليبيا الإقليمية، الأمر الذي مكّن تركيا من إعادة التوازن لصالح قوات حكومة الوفاق التي يرتبط وجودها ببقاء (وصون) مصالح تركيا وعلاقاتها مع ليبيا.
وعلى الرغم من العلاقات الثنائية، وحسابات المصالح والاستراتيجيات، حاولت تركيا، في البداية، تجنّب أن تكون طرفاً في الصراع الدولي والإقليمي على ليبيا، وكانت تنادي بضرورة الحل السياسي، وإنهاء الصراع الداخلي وفق مبدأ التوافق الوطني، ولكن تطورات الصراع والأزمات بعد الثورة، وعدم قبول الأطراف المتصارعة بالاتفاقيات السياسية الأممية، جعلتها طرفاً متدخلاً في الصراع، حيث لم تقتصر التدخلات على الأطراف الإقليمية العربية، بل هناك تدخلات روسية وفرنسية وإيطالية وأميركية في ليبيا.
ولا تكترث الأطراف المتدخلة في الشأن الليبي إلا بتأجيج الصراع، فالأوروبيون معنيون بتوطيد التعاون بينهم من أجل منع تدفق المهاجرين غير الشرعيين، ويهتمون كثيراً بمراقبة الحدود الليبية جوا وبراً وبحراً، وبعدم السماح بإدخال أسلحة سوى التي يرسلونها، بينما يستمر الروس في تدخلهم العسكري، عبر إرسالهم مقاتلات، إضافة إلى مرتزقة فاغنر، والدعم المصري والإماراتي مستمر للأطراف المناهضة لحكومة الوفاق.
ولا يبدو أن لدى الأطراف الخارجية المتدخلة في الشأن الليبي الإرادة والرغبة الفعلية في التوصل إلى حل لإنهاء الصراع في ليبيا، عبر التوافق على تسويةٍ عادلةٍ تحقق رغبة الليبيين في وقف معاناتهم، لأن مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية تتجاوز مصالح الشعب الليبي. لذلك ليس الصراع على ليبيا مرشحاً للتوقف في المنظور القريب.
عمر كوش
العربي الجديد