عاد الخلاف بين موسكو والنظام السوري إلى الواجهة في الأيام الأخيرة، وسط تراكم أحداث كثيرة على الأرض تدلّ على أن التحالف بين الجانبين يتعرّض لشرخ كبير، إذ بات واضحاً اختلاف حسابات كل منهما إزاء مستقبل الوضع السوري والحل السياسي للأزمة، ودور طهران في بلاد الشام.
من أبرز مظاهر الخلاف كان نشر مقال لرامي الشاعر، المستشار في وزارة الخارجية الروسية لشؤون الشرق الأوسط، بعد ثلاثة أيام من المواقف التي أعلنها وزير الخارجية السوري وليد المعلم في المؤتمر الصحافي الذي عقده الثلاثاء في 23 يونيو (حزيران) الحالي، عن موقف حكومته من “قانون قيصر” للعقوبات الأميركية على المتعاملين مع النظام السوري ومؤسساته. وتهكّم الشاعر الذي نشر مقاله في موقع “كتابات” ثم تناقلته مواقع إخبارية عدّة، على قول المعلم ضرورة “تحويل قانون قيصر إلى فرصة للنهوض بالاقتصاد الوطني وتحقيق الاكتفاء الذاتي”.
تبرّم من النظام و”دهشة” من كلام المعلم
والمعروف عن الشاعر، السوري – الفلسطيني الأصل، والحائز على الجنسية الروسية، أنه كان مستشاراً للكرملين قبل أن يتولّى الصفة ذاتها في وزارة الخارجية الروسية، أنه مقرب من نواب وزير الخارجية، لا سيما المبعوث الرئاسي الخاص إلى الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف. وقال عارفون بأسلوب العمل في الخارجية الروسية أنه لم يكن للشاعر أن ينشر مقاله من دون إطلاع بوغدانوف عليه. وجاء في المقال أنه “لعل أكبر مصدر للصدمة ثم الدهشة، تلك الصورة التي نقرأها في كلمات المعلم عن الوضع في سوريا الذي يبدو طبيعياً للغاية، فلا يوجد أي دمار أو مهجرين في الداخل والخارج. والدولة تقوم بواجبها على أكمل وجه وملتزمة بدفع الرواتب لكل الموظفين في مؤسساتها ولا يعاني الشعب من غلاء المعيشة وانخفاض القيمة الشرائية للرواتب… هكذا بكل بساطة وأريحية”. وأشار الشاعر إلى أن قيمة راتب المعلم والطبيب وصلت إلى 15 دولاراً والعقيد 40 دولاراً، وإلى “تعبيرات الدهشة والذهول على وجوه الصحافيين الذين كانوا كَمَن يتابعون رائد فضاء عاد لتوه من كوكب القمر”. واعتبر أن “كليشيهات المؤامرات ضد سوريا والمزايدات الإنشائية حول الصمود والمقاومة لم تعد تسمن أو تغني من جوع”.
الأهم في مقال الشاعر قوله إن “هذا النظام تكلّس ولم يعد مقبولاً من غالبية الشعب السوري وكل محاولات عرقلة النظام تنفيذ القرار الدولي 2254 أو الالتفاف عليه وإيقاف حركة التاريخ لن تطيل عمر النظام”.
العبارة المفتاح: الانتقال السياسي
وأضاف الشاعر في مقاله “وصلتني رسائل من دمشق تسعى إلى توريط روسيا (بأن عليها أن تضخّ المليارات في سوريا ردّاً على قيصر) وجعلها رهينة للأزمة السورية، متجاهلةً كل ما قدّمته من موارد وجهود وأرواح وما قامت به بمشاركة مجموعة أستانا”. وأكد أن “سوريا لن ترى أي أمل من دون الشروع الفوري في عملية الانتقال السياسي… وكل ما هو دون ذلك، ليس سوى انتحار للنظام الحالي وإطالة أمد معاناة الشعب”.
العبارة المفتاح في مقال الشاعر المُجاز من الخارجية الروسية هي العودة إلى الحديث عن “الانتقال السياسي” الذي يشكّل جوهر القرار الدولي الرقم 2254 الذي كانت موسكو تؤجل البحث فيه خلال المرحلة السابقة، حين ركّزت على صيغة تعديل الدستور وتشكيل لجنة صياغة الدستور الجديد لسوريا الذي استغرق سنتين من إضاعة الوقت، إذ لم تسفر اجتماعاتها في جنيف خلال الأشهر الماضية عن أي تقدم نتيجة مراوغة ممثلي النظام فيها، فهؤلاء يشدّدون على أن الغرض منها ليس كتابة دستور جديد بل “البحث في الدستور”، ما جعلها منتدى للسفسطة والمناورات بلا أي نتيجة.
المناخ الجديد: تأخر الحل وتقدّم إيران
لم تكن المرة الأولى التي ينتقد فيها مقرّبون من دوائر القرار الروسي حكام دمشق. فبعض هؤلاء لا يخفي تبرّمه منذ أكثر من سنة، من سلوك الحليف ومن عدم فعاليته ورفضه التقاط الفرص، إلى درجة أن شخصيات معروفة بدورها في صوغ سياسات موسكو كانت تلفظ عبارات تطال الرئيس السوري بشار الأسد شخصياً، مشيرين إلى معاناة المسؤولين الروس من مواقفه ومن عدم إيفائه بالتزاماته، على الرغم من أن موسكو حافظت على موقفها المبدئي القائل إنها ضد إسقاط الأسد وإن هذا الأمر يقرّره الشعب السوري… وهو موقف يراه العارفون بالمعادلة الدولية طبيعياً، طالما أن موسكو لم تتوصّل إلى اتفاق واضح مع الولايات المتحدة على حلّ الأزمات في الشرق الأوسط.
وشهد أبريل (نيسان) الماضي، كتابة مقالات عدّة تتناول الأسد شخصياً وتهاجم فساد حكّام دمشق، ونشر معلومات عن شرائه عبر وسيط لوحةً تبيّن أنها ليست أصلية كهدية منه لزوجته، دفع ثمنها ملايين اليورو. ونُشرت هذه المقالات في مواقع إخبارية تابعة لمقرّبين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأثارت الحملة الإعلامية التي طاولت انحيازه إلى إيران، ردود فعل من مقربين من النظام، هدّد بعضها بإزالة قاعدة حميميم الروسية وحرقها… تعاطى معها الروس على أنها سخيفة. إلّا أنّ ما بات مسلّماً به أيضاً، هو أن موسكو تشعر بالقلق من أن الانتصارات العسكرية التي حقّقتها في سوريا بوجه محاولات إسقاط الأسد وتغيير موازين القوى الجيوسياسية في المنطقة، ونجاحها في استعادة الدور الروسي الشرق الأوسطي، لم يُترجم بحلّ سياسي يكرّس عودة نفوذ الدب الأبيض إلى بلاد الشام والمنطقة، باعتراف أميركي ودولي رسمي. وهي غير مرتاحة لأن تأخير الحلّ السياسي واضطرارها إلى دعم الأسد بوجه المعارضة، يتيحان لإيران مزيداً من الوقت كي تطوّر نفوذها على الأرض السورية وفي بعض المؤسسات، ومدّ تأثيرها في بشار الأسد.
الدوران الإيراني والتركي
لم تستطع موسكو ملاقاة واشنطن التي كرّرت القول إن لا اعتراض لديها على النفوذ الروسي وتعزيزه في سوريا، وصولاً إلى إيحاءات عدّة بأنها لا تعارض بقاء القوات الروسية فيها، وأن اعتراضها هو على الوجود الإيراني في بلاد الشام، الذي تعبّر عنه في كل مناسبة بالمطالبة بانسحاب إيران والميليشيات التابعة لها منها وبضرورة ممارسة الكرملين ضغوطه لهذا الغرض. فبوتين حاول سحب طهران من أجزاء من جنوب سوريا بعد اتفاقه مع دونالد ترمب في قمة هلسنكي في يوليو (تموز) 2018 على بذل مسعاه في هذا الصدد لغرض يتعلّق بأمن إسرائيل، لكنه أخفق أمام المناورة الإيرانية بالانكفاء ثم العودة إلى الاقتراب من الحدود السورية مع منطقة الجولان المحتلة من قبل إسرائيل.
كما أن مراهنة موسكو على اجتذاب تركيا بالكامل إلى صفها وإبعادها عن واشنطن، حلّت مكانها اتفاقات ظرفية بينها وأنقرة وبين الأخيرة وطهران، حين تتقاطع مصالح العواصم الثلاث على الأرض السورية، كما تجسّد ذلك في صيغة أستانا منذ عام 2017. فطموحات “السلطان العثماني” في المنطقة جعلته قريباً من موسكو في حالات معينة (وضع إدلب السورية) لمواجهة الدعم الأميركي للأكراد في شمال البلاد، وعلى تقارب من واشنطن من جهة أخرى في منع تمدّد النفوذ الإيراني إلى الشمال، فضلاً عن الخلاف الكبير التركي – الروسي في ليبيا، حيث الموقف الأميركي متأرجح ويأخذ في الاعتبار أن أنقرة عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ولا بد من مراعاة هاجسه إزاء إمكان قيام دولة كردية على حدوده مع سوريا.
وجاء فشل اجتماع وزيرَيْ خارجية موسكو سيرغي لافروف وأنقرة مولود جاويش أوغلو قبل نحو أسبوعين الذي طلبت إيران الانضمام إليه، ليعتبره مراقبون مؤشراً إلى أفول شهر العسل في صيغة أستانا.
شبيه مادورو… وعقوبات “قيصر”
يرى متابعون للموقف الروسي أن تأخّر الحلّ السياسي في سوريا يجعل الأسد مثل الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الذي لا يعترف به معظم الدول العالم مع معارضة شعبية واسعة له. واستمرار الوضع على حاله في سوريا، فضلاً عن الاستنزاف المديد الذي يسبّبه، يضع موسكو في موقع معقّد بالتعرض إلى عقوبات “قانون قيصر”، فالشركات الروسية المستثمِرة في الغاز السوري (غازبروم ونفتاغاز) وإحدى شركات استخراج الفوسفات هناك في مرمى العقوبات، ما دفع موسكو إلى التباحث مع واشنطن لتجنيبها تلك العقوبات، فيما تترقّب الدبلوماسية الروسية ما يُحضّر من عقوبات إضافية، أكثر تشدّداً على إيران واستثماراتها في سوريا.
مظاهر التعارض في المصالح بين موسكو وطهران على الأرض السورية تزداد وضوحاً مع استمرار القصف الإسرائيلي الجوي للمواقع الإيرانية بشكل أسبوعي تقريباً. وهي عمليات تنفّذ كما بات معروفاً بغضّ نظرٍ روسي ونتيجة معلومات استخبارية أميركية بفعل اتفاق “جنتلمان” بين الدولتين العظميين على إعطاء الحرية لتل أبيب كي تستهدف الجانب الإيراني على الأرض السورية ومنعه من تثبيت قواعد فيها. الموجتان الأخيرتان من القصف، كانتا الأعنف. الأولى جرت ليل 23 يونيو الحالي، بدأت في ريف السويداء جنوباً (تل سحنا) ثم منطقة عقارب، لكنها توسّعت إلى محافظات بعيدة مثل دير الزور (كباجب) وطرق حلب (أثريا) وشرق حماة، حيث تبيّن أن الإيرانيين استحوذوا على معامل ضخمة متوقفة عن العمل (لتجفيف البصل وللأعلاف…)، بالاتفاق مع النظام من أجل تحويلها إلى مستودعات صواريخ. كما شمل القصف ممرّات لتلك الميليشيات على طريق حلب نحو البادية السورية. وأفادت الأنباء بأن قتلى إيرانيين (يُقال إن عددهم خمسة) سقطوا، فيما اعترفت السلطات السورية بسقوط جنديين لها. الموجة الثانية حصلت ليل 28 يونيو على معبر البوكمال مع العراق، حيث تتحرّك القوات الموالية لإيران وتُدخل السلاح، فأُعلن مقتل جنديين سوريين وآخرين من جنسية أخرى.
ينطبق عدم تدخل الجيش الروسي لوضع حدٍّ لهذه الغارات على الموقف الذي سبق لموسكو أن أبلغته إلى طهران حين سألتها لماذا لم تتدخل عبر صواريخ “إس400 ” لمنع إسرائيل من التمادي، فكان الجواب أن تل أبيب تتخوّف من الأسلحة التي تُخزَّن في سوريا ومنها صواريخ بعيدة المدى، فيما روسيا وإيران تدخلتا في سوريا للدفاع عن السلطة الشرعية فيها ومواجهة التطرف الإرهابي وهذا لا يحتاج إلى صواريخ بعيدة المدى.
الفيلق الخامس واللقاءات مع جيفري والمعارضة
هناك خطوات أخرى نجمت عن مناخ موسكو الذي عكسه مقال رامي الشاعر، منها:
التوسّع الروسي عبر انتشار الفيلق السوري الخامس الخاضع لنفوذ الجيش الروسي، في السويداء الدرزية ودرعا السنّية. ويقول متابعون سوريون أن الفيلق الخامس انتزع درعا من الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد والتي تتمتّع إيران بنفوذ قوي على وحداتها، ووضع مناطقها تحت رعايته. وهناك قلق روسي من أن الفوضى الأمنية في درعا قد تستفيد منها بقايا “داعش” للعودة. وجاء إصدار الأسد عفواً رئاسياً في 24 يونيو عن 3734 معتقلاً في درعا بضغط روسي، تمهيداً لمصالحة في المدينة ومحيطها، تخفّف من المنحى القمعي لأدوات النظام الأمنية ضد المعارضين.
فتحت موسكو منذ أسابيع مداولات مع واشنطن عبر لقاءات بين نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين والموفد الخاص لبوتين إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف مع الموفد الأميركي الخاص إلى سوريا السفير جيمس جيفري، للبحث في سبل إحراز تقدم في الحلّ السياسي والتفاهم على خطوات تقرّب وجهات النظر.
وفتحت موسكو خطوط التواصل مع رموز المعارضة، فإضافةً إلى لقاء بوغدانوف مع معاذ الخطيب (رئيس سابق للائتلاف الوطني المعارض) في قطر قبل بضعة أسابيع، دعت الخارجية معارضين إلى موسكو للتباحث في سبل إطلاق المسار السياسي، منهم هيثم منّاع ولؤي حسين. وتجري اتصالات مع آخرين وتدعو مَن ليسوا متشدّدين إلى العودة إلى سوريا مع الاستعداد لحماية وجودهم. وتتردّد في بعض الأوساط معلومات عن أن موسكو عادت إلى طرح فكرة تشكيل مجلس عسكري من الجيش السوري والمنشقين عنه، مع ضمّ بعض الفصائل المعارضة لتوحيد القوى العسكرية.
في سياق متصل، أنهت وزارة الاقتصاد السورية العمل بعقود ممنوحة لشركات يملكها رجل الأعمال البارز رامي مخلوف لتشغيل الأسواق الحرة، في حلقة جديدة من سلسلة إجراءات اتّخذتها الحكومة في نزاعها المستمر منذ أشهر مع ابن خال الرئيس بشار الأسد.
ونشرت وزارة الاقتصاد الأحد (28 يونيو) على صفحتها الرسمية على “فيسبوك” نسخةً من القرار الذي تضمّن فسخ عقود مع شركات خاصة مستثمِرة في الأسواق الحرة في دمشق وطرطوس واللاذقية ومناطق أخرى، وعلى المعابر الحدودية مع لبنان والأردن، وتعود ملكيتها وإداراتها إلى مخلوف.
وليد شقير
اندبندت عربي