إيران تحترق، بما أوقدت. سلسلة متتالية من الانفجارات والحرائق تكاد تقول جميعها الشيء نفسه. فإذ أُسقط بيد المظلومين، تحت عمامة الولي الفقيه، أن يحتجوا، وأن يُسمع صوتهم، وأن يطالبوا بالتغيير، وأن تكف بلادهم عن سياسات التدخل والتخريب في شؤون الآخرين، وأن تخرج من دائرة العبث الثوري الذي حول اقتصادها إلى رماد، وأن تكف عن مناطحة الصخر دفاعا عن مشروعها الطائفي، وأن تعود دولة “طبيعية” لا دولة عصابات وميليشيات، فماذا بقي لهم، غير أن يحرقوا البيت؟
لم يعد ثمة لغز في الحرائق. تواليها، وتعدد أشكالها وأسبابها ومناطق حدوثها، كشف عن أنها تنطوي على بُعد احتجاجي واحد، يردد العبارة نفسها، فهذا نظام هو نفسه كان قد أحرق كل شيء، ويتعين الآن أن يندفع إلى الهاوية التي اختارها بنفسه.
الإيرانيون لا يحرقون، خلسة بدافع من الخوف. الأيام شهدت لهم، بتظاهراتهم التي ظلت تتواصل لسنوات، أنهم لا يخافون قمع نظامهم ولا وحشيته، ولا قدرته اللامتناهية على البطش الجماعي. فلقد رأوا من ذلك الكثير.
إنما الحرائق عمل من أعمال المقاومة الشعبية؛ المقاومة الحقيقية، لا مقاومة الخداع والدجل والزيف. وهي بقابليتها على أن تتسع، فإنما تريد للنظام أن ينهار بعجزه. وأن يجد نفسه وسط الحريق.
المظلومون لا يخسرون شيئا على أي حال. فما تحققه منشآتهم الصناعية أو التجارية أو النووية، لا تعود بمنافعها عليهم في جميع الأحوال. وتذهب عائداتها لتغذي أدوات البطش. فما الذي يمنع أن يندلع فيها الحريق؟
مناطق شاسعة وأقاليم وأقليات تعرف اليوم من الحرمان والتمييز ما أصبح فاضحا أيضا، لتُصبح وتنام على قهر شديد. وبينما تتصاعد فيها دوافع التمرد، فإن الأصابع التي على الزناد، كانت هي التي علمتهم أن يؤمنوا بعيدان الثقاب.
والبؤس الذي يعيشه الجميع، يكاد يكون لا مثيل له. ليس في الاقتصاد وحده، بل في كل شيء. والموت عميم. وإذ أدت الاحتجاجات السلمية إلى مقتل عدة آلاف من المتظاهرين، يُعتقد أن 1200 منهم سقطوا في ليلة واحدة، ودفعت بعشرات الآلاف إلى السجون، فماذا بقي للمظلومين غير أن يحرقوا كل ما يستطيعون على رؤوس الظالمين؟
الحرائق ليست سوى واحدة من وسائل الاحتجاج ضد نظام لا يُصغي، ولا يكف عن أعماله الوحشية، ولا يرتدع. وهناك جوع، وفوق الجوع موت. الاقتصاد الإيراني يغرق في دوامة لا قرار لها من العجز والتضخم والبطالة، ويجتاح الفقر قطاعات أكبر فأكبر مع مرور كل يوم. ولا تملك خزائن الولي الفقيه ما تسد به أدنى الاحتياجات. حتى جاء الوباء، فلم يجد الإيرانيون مستشفيات تحميهم من الموت. وعجزت الدولة عن أن تعزل الإصابات، الأمر الذي أدى إلى أن يفلت الزمام كليا، بمجال مفتوح للتفشي، ومقابر لم تعد تتسع للضحايا.
التقديرات على المستويات الأدنى للسلطة تقدم حقائق مروعة. يشير أحدها، بحسب اللجنة الوطنية لمكافحة الفايروسات التاجية الإيرانية، إلى أن مجموع الإصابات الراهن يصل إلى 18 مليون إنسان. وفي هذا ما يكفي لكي يرى الإيرانيون أنهم في كفة، على ميزان الوباء، بينما العالم كله في كفة أخرى. وبينما تحوم الوفيات في العالم كله حول ما يقرب من 600 ألف، فالموت في إيران وحدها يحصد نحو 900 ألف. فلماذا لا يحترق البيت على رؤوس الظالمين؟
الموت هو نفسه الموت على أي حال. والذين لا يجدون في نظامهم إلا القهر والتعسف، والذين لا يملكون القدرة على تحقيق أي تغيير، فماذا تراهم يفعلون، غير أن ينتهزوا كل فرصة ومناسبة لكي يلقنوا نظام الولي الفقيه الدرس الذي لم يشأ أن يتعلمه بوسائل أخرى.
المفارقة الأهم هي أن النظام الذي اعتبر تدخلاته في الخارج سبيلا للدفاع عن نفسه يستطيع الآن أن يرى أن دفاعاته تنهار ليس في الخارج وحده وإنما بعود ثقاب يوقده المظلومون في الداخل
من عبقرية الشعوب أنها تبتدع وسائل لمواجهة الظلم لم يسبق أن ألفها الظالمون. وها هي العبقرية تقول ما لم يكن ليتوقعه أحد. الغامض في الحرائق المتتالية واضح، والسر فيها مكشوف، وهو أن هذا النظام الذي قاد البلاد إلى الفشل، وساق الجوار، بعصاباته، إلى فشل مماثل، لم يُبق سبيلا للتغيير سوى حرق البيت.
المفارقة الأهم هي أن النظام الذي اعتبر تدخلاته في الخارج سبيلا للدفاع عن نفسه، يستطيع الآن أن يرى أن دفاعاته تنهار، ليس في الخارج وحده، وإنما بعود ثقاب يوقده المظلومون في الداخل.
وإذ لا تملك إيران ما تستر به عورة انهيار البنى التحتية، ولا إدامة منشآتها الصناعية، فإن ما يحترق لن يمكن تعويضه، وسيظل يحترق المزيد حتى تكتشف عصابات الولي الفقيه أنها قادت إيران إلى دمار هو ذاته الدمار الذي صنعته في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ولكن، هل من فرصة لوقف الحريق؟ هل من فرصة للاستدراك؟ هل يمكن للحظة وعي أن تفتح أمام هذا النظام طريقا آخر؟
الجواب البسيط: لا، فقد سبق السيف
العذل بالكثير إلى درجة أن الاستدراك بات ضربا من ضروب المستحيل.
المسألة لا تقتصر على العمى السياسي وحده، ولا على ثقافة تطرف دأبت على التعنت والصلف، ولا على معاندة الحقائق، ولا الجري وراء الشعارات والتصورات الفارغة، ولا العنتريات الأكثر فراغا منها، ولا مناطحة صخر الوقائع في العلاقة مع العالم والجوار، وإنما في حقيقة أن الخراب بلغ مستوى لم يعد بوسع أحد أن يحمله على أكتاف التراجع والاستدراك، ولا حتى طلب العفو، ولا حتى الاعتراف بالفشل.
لقد بلغ الانهيار الاقتصادي والصحي في إيران حد الجريمة، وهي من السعة وسرعة التداعي حتى لكأنها صخرة ضخمة، ولا شيء يمكن أن يُوقف انحدارها إلى القاع. والقاع هو الحريق.
هذا نظام لم يُبق ما يرحمه أيضا. وبرقبته ملايين الضحايا، إلى درجة أن جهنم نفسها ستظل تطلب حطبا لكي تتسع لما ارتكب من فظائع.
والاستدراك الذي ظل ممكنا لسنوات، ضاع، وظل يضيع، عاما بعد آخر، وجريمة بعد أخرى. فالعمى المتأصل في فقهه وسياساته، ظل يدفعه إلى المزيد. ومن هذا العمى نفسه، عن رؤية الحقائق، فإنه سيندفع إلى ارتكاب المزيد من الجرائم، ظنا منه أنها هي وحدها السبيل.
انتفاضة بعد أخرى، وقمعا وحشيا بعد آخر، لم يبق للإيرانيين سبيلا إلا أن يحرقوا البيت.
والتظاهرات الأخيرة، التي اندلعت في إيران في نوفمبر الماضي، هي التي علمت الإيرانيين الدرس الأخير. فهذا نظام، إذا خاف مما ارتكب، فإن رد فعله الوحيد هو المزيد.
وجوع لبنان، واحد من آخر الشهود على الصلف.
ولا حاجة لأي إحصاء. فالفشل الذي يعرفه العراقيون والسوريون واللبنانيون واليمنيون، غني بما يكفي لكي يكشف عن وجه الشيطان في هذا الولي القميء من تحت عمامة النار والرماد، حتى جاءه الحريق.
وإذ أن لكل جريمة عقابا، فعقابه وعقاب عصاباته ما يزال في أول الطريق.
الإيرانيون الذين عجزوا عن التظاهر، والذين عجزوا عن إيصال صوتهم من أجل التغيير، والذين دفعوا ثمن الجريمة مرتين، في الخارج والداخل، لا يملكون الآن إلا أن يحرقوا البيت.
وحريقا إثر حريق، سوف يفهم الولي الفقيه، أنه ما من نفاق في الفقه يمكن أن يشفع له، وأن الوقاحة بالغةٌ منتهاها، وأن عمامته أجدر بأن تُداس بالأقدام، وأن جلاوزته لن ينفعوه، وأن الثمن يجب أن يُدفع، بأن يُعلق على ذات الحبل الذي ظل يعلق فيه معارضيه.
ولن تعدم إيران من بعد الحريق سبيلا لكي تعيد بناء ما تهدم. قوى الحرية والعدالة والسلام سوف تجد سبيلا لبناء نظام جديد. ومثلما تكنس العصابات كنس القاذورات في إيران، فإنها سوف تكنس في كل مكان آخر. والكل يعرف أن أحزاب الشيطان أنفسهم يعرفون. فالعاقبة آتية، وهم يرونها بما يحترق بين أصابع وليهم السفيه.
العرب