الاستغناء عن مصطلح العصور الوسطى ينتصر لنموذج التطور الإسلامي

الاستغناء عن مصطلح العصور الوسطى ينتصر لنموذج التطور الإسلامي

يفكك المؤرخ الألماني توماس باور مصطلح “العصور الوسطى” ويدرس الضرر الذي تسبب فيه على مستوى الدراسات التاريخية المقارنة، ويحذر من استعماله بدلالات سياسية بل يدعو إلى الاستغناء عنه نهائياً لأنه يعيق التفكير في التاريخ أكثر مما يشجعه.

ويرى في كتابه “لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية ؟ الشرق وتراث العصور العتيقة” الذي نقله إلى العربية المترجم المصري الدكتور عبد السلام حيدر وصدر عن دار الجمل (2020) أن مفهوم العصور الوسطى ليس مشكلة معزولة، لأنه يؤثر بشكل مباشر في الفعل السياسي. وتوماس باور مستشرق ألماني بارز نال درجة الأستاذية عن دراسته “الحب وشعر الحب في العالم العربي في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين” ويعمل حالياً في جامعة مونستر الألمانية وكانت صدرت عن دار الجمل ترجمة عربية لكتابه “ثقافة الالتباس”.

يقترح الكتاب تصوراً نظرياً بديلاً لتفادي أزمات التحقيب التاريخي المستمد من نفوذ المركزية الغربية، ما يذكر القارىء المتخصص بأفكار أخرى مماثلة طرحها المؤرخ الأميركي بيتر جران في ما كتبه عن الجذور الإسلامية للرأسمالية. يقول باور: “العصور الوسطى كانت هناك فقط ، حيث توجد أوروبا وعندما نطبق هذا المصطلح عنوة على المجتمعات الأخرى فإننا نغتصب هذه الثقافات من أجل تاريخنا الخاص، إذ غالباً ما تتزامن إحالة هذه الثقافات على العصور الوسطى بنفي العصرنة والحداثة عنها”. ويتساءل: كيف يمكن أن نبرر ادعاء الفرادة التاريخية الذي أتاح لأوروبا الزعم بأنها الوريث الوحيد للعصور العتيقة، ومن ثم إنكار عصر النهضة على الإسلام؟

ارتباكات المطلح

الكتاب الجديد بدأ كمحاضرة قدمها المؤلف في العام 2014 وعمل على تطويرها نتيجة ما أثارته من تعليقات. ويرى المؤلف أن مصطلح العصور الوسطى يثير ارتباكات عديدة في مجال الدراسات التاريخية المتعلقة بالعالم الإسلامي وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يطرح للنقاش من قبل العلماء الأوروبيين إلا عرضاً وهو أمر نادر. وتسعى نظريات عديدة لتحديد البداية الزمنية لانطلاق العصور الوسطى، فهناك من ينحاز لاختيار العام 284 ميلادي، وهو بداية عصر الإمبراطور الروماني دقلديانوس، وهناك من يفضل تاريخ 327 ميلادي مع تولي الإمبراطور قسطنطين عرش الإمبراطورية الرومانية ثم اعترافه بالمسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية. غير أن التاريخ الشائع هو اعتبار العام 476 البداية الحقيقية للعصور الوسطى الأوروبية بعد القضاء على عاصمة الإمبراطورية الرومانية الغربية. وانتهى الجدل بين المؤرخين إلى اعتبار السنوات من القرن الثالث إلى القرن الخامس الميلادي هي مرحلة الانتقال من التاريخ الأوروبي القديم إلى العصور الوسطى مع التسليم بأن القرن الخامس هو بداية عصور الوسطى.

وكما اختلف المؤرخون حول البداية فقد اختلفوا أيضاً في تحديد نقطة النهاية وإن كان التوجه الأغلب يقوم على اعتبار سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين في العام 1453 هو عام النهاية. غير أن المؤلف لا يرى أن هذا الحدث يمكن استعماله حداً لتحقيب تاريخ العالم بخاصة أن هناك من يسعى لاعتبار عصر النهضة والعصر الحديث المبكر حقبتين تاريخيتين منفصلتين وينادي بدلاً من ذلك بعصور وسطى أطول تستمر حتى منتصف القرن الثامن عشر. ويؤكد الكتاب أن التزامن وحده لا يعني تشابه الظروف المعيشية ولا يشير إلى تطابق الإدراك والشعور.

ويبتكر المؤلف مقارنة موجزة تشمل 26 مصطلحاً مرتبة أبجدياً لإنارة التطورات المتباينة بين مناطق من غرب ووسط أوروبا وغرب آسيا ولعل أبرزها تناوله مفهوم الأمية، فبينما كان أغلب المشاركين في الحروب الصليبية من الجنود الأوروبيين “أميين”، فإن الجانب المقابل قاده أسامة بن منقذ الذي كان لديه الوقت الكافي لكتابة مذكراته ومختاراته الأدبية عن الحرب وتنتهي تلك المقارنة إلى الإقرار بأن الحفاظ على الثقافة العتيقة ومواصلة تطويرها أمران كانا يميزان الشرق، لذلك لم يكن هناك “عصر رينسانس” فلا إحياء لما لمْ يمت.

أوجه تشابه

ويثير الكتاب تساؤلاً رئيسياً: هو هل يوجد ما يكفي من أوجه التشابه بين الظروف الحياتية في كل من أوروبا والشرق الإسلامي تسمح بتبرير وضعهما في حقبة تاريخية واحدة؟ هذا بخلاف ما يؤدي إليه استعمال كلمة “إسلامي” من غموض فكثير من “الأطباء المسلمين” على سبيل المثال، لم يكونوا مسلمي الديانة وإنما كانوا يعتنقون ديانات أخرى، لكن على الرغم من ذلك يصعب تخيل “الطب الإسلامي في القرون الوسطى” بوصفه خطاباً طبياً تقدمياً بل وعلمانياً بالمعنى الغربي، على الرغم من أنه كان هكذا بالفعل. ويعتقد توماس باور أن استعمال مصطلح إسلامي هو استعمال مضلل، فهو يشير إلى ثقافة وليس إلى دين، وعادة ما يؤدي إلى كارثة عندما يتم ربطه بالعصور الوسطى.

ويشير في هذا الصدد إلى مقترح قدمه المؤرخ الأميركي مارشال هودجسون (1922- 1968) لتجاوز هذه الإشكالية عندما اقترح استعمال مصطلح “إسلامكيت” ليعبر به عن ظواهر العالم الإسلامي التي لم ترتبط بالدين بشكل مباشر. وللأسف لم يكتب لهذا المصطلح الشيوع وبالتالي ظلت الالتباسات قائمة حول مصطلح العصور الوسطى الذي يشير إلى مفارقة من نوع آخر فهذه الحقبة “شديدة التدين” كما أنها أصبحت وبشكل ما حقبة “للتعصب الديني” أيضاً.

ويجادل المؤلف كثيراً حول مكانة الدين في تلك الحقبة مشيراً إلى أن الافتراضات المسبقة عن طبيعة الإسلام (القروسطية) تؤثر أيضاً في تفسير المنتوجات الإبداعية. ويشير إلى أن الغالبية العظمى من الناس في المجتمعات الإسلامية كما في أي مكان آخر، كانت تؤدي واجباتها الدينية بعناية قلّت أو كثرت، وأحياناً بقصد التوافق الاجتماعي، وفيها أيضاً وجدت مجالات حياتية كانت دنيوية بالكامل وما يمكن قوله بوضوح إن تلك المجتمعات تميزت بشكل مدهش بما يسميه “التسامح الملتبس”.

ويؤكد باور أن العلم لا يمكنه أن ينجح في تصحيح الصورة الخاطئة عن العصور الوسطى ما لم يقم بالتخلي عن المصطلح نفسه، لأنه قد تأسس منذ البداية على هذه الصورة الزائفة والتي أوجدت لاستعماله “دلالة تشهيرية”، بحيث لم يعد يقصد به عصراً حقيقياً، بل بات ظاهرة عابرة للزمن مخصصة للتخلف والتعصب. ويضرب مثلاً بالإعلانات الترويجية على شبكة الإنترنت، فبينما تسعى لإثارة فضول العملاء عن “طعام الفرسان” وتحفزهم للعودة إلى العصور الوسطى الأوروبية فإنها ترى العودة إلى العصور الوسطى الإسلامية، على العكس من ذلك مثل “السقوط في الهاوية”.

ويشدد المستشرق الألماني باور على أن الاستعمال السياسي للمصطلح يؤدي إلى النظر للحداثة في المقام الأول كـ”مكسب أوروبي خاص” وهنا تحديداً يتم تجاهل أن الأيديولوجيات الشمولية بما فيها الفاشية والنازية والهولوكست نتجت أيضاً من الحداثة. وهكذا فإن وصم بقية العالم بـ”القروسطية “- كما يؤكد – هو فعل إستراتيجي إمبريالي غرضه إعلاء التفسير الغربي للحداثة العالمية على ماعداه من تفسيرات.ووفقاً للتفسيرات التي تربط عملية التحقيب التاريخي بالمركزية الغربية فإنه لا يستطيع مجتمع ما أن يدخل العصر الحديث، إلا باتباع مسار التاريخ الأوروبي وبأخذ الحداثة الغربية جملة ومن دون تردد.

كلاسيكي وما بعد

وفي العالم الإسلامي تبنى مؤرخون بارزون الرؤية التي أشاعها المؤرخ الألماني كارل بروكلمان في عمله الكبير عن تاريخ الأدب العربي عبر التفرقة بين عصر كلاسيكي وما بعد كلاسيك، وتبعاً لذلك شهد العالم الإسلامي مرحلة ازدهار ثم تبعتها فترة طويلة لا تنتهي من الركود والتدهور خسر خلالها وظيفته كوسيط خلال عصره الذهبي، ولاستعادة هذا الدور تنامت أطروحة أن الاضمحلال جاء وفقاً مخطط استعماري لكي يسمح بتطبيق فكرة المهمة الحضارية التي يتولى الاستعمار الغربي إنجازها على شعوب كانت متحضرة بالفعل. والغريب – وفقاً لرأي المؤلف- تبني المؤلفين العرب بامتنان هذا المفهوم لأجل تأسيس أجندة قومية وفي ما بعد إسلامية أيضاً وأصبح الناهضون يرون ضرورة العودة إلى “عصر ذهبي” يجده العلمانيون في القرن التاسع الميلادي ويجده الإسلاميون في عهد الخلافة.

وللوصول إلى تحقيب مجدٍ ومقبول يدعو الكتاب للامتناع عن استخدام مصطلحات ذات محتوى تقييمي مثل الازدهار أو الاضمحلال، فضلاً عن مقاومة الإغراء بتناول التواريخ المحلية إلى جانب النظر في عمليات التغيير الكلي لأشكال الحياة اليومية وتطور اللغويات، إذ إن منهجيات تطور علم اللغة أكثر انضباطاً مما لدى العلوم التاريخية ويقبل الكتاب بأطروحة المؤرخ الألماني غارث فودن التي تنظر إلى الألفية الأولى كحقبة زمنية واحدة وينتصر لضرورة البحث في تاريخ المجتمعات الإسلامية خلال القرون الخمسة الأولى، حيث يمكن تأسيس تاريخ فكري مغاير يقوم على تحقيب كالتالي قرن الأول الهجري / السابع الميلادي حتى الخامس الهجري والحادي عشر الميلادي، ثم يتبع هذا مرحلة ما بعد تكوينية تستمر حتى القرن الثالث عشر الهجري والتاسع الميلادي، وأخيراً مرحلة المواجهة مع الحداثة المعولمة والمستمرة حتى يومنا هذا.

سيد محمود

اندبندت عربي