بينما الأضواء الدولية مسلطة على الصراع الدائر بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وتلك الإقليمية على النزاعات المشتعلة في اليمن وليبيا، تشهد إيران موجة استثنائية من الهزات السياسية والأمنية والاقتصادية والصحية من دون ضوء حقيقي في نهاية ذلك النفق.
صيف إيران الملتهب استمر هذا الأسبوع بحريق مساء الثلاثاء، في مصنع للألومينيوم في مدينة لامرد، تلاه آخر في ميناء بوشهر حيث اشتعلت سبع ناقلات بحسب الإعلام الرسمي الإيراني. الحرائق ألحقت أكثر من عشرة تفجيرات استهدفت نقاط نووية وعسكرية للنظام والحرس الثوري في الأسابيع الثلاثة الأخيرة.
بين مسلسل الحرائق والتفجيرات، واصلت العملة الإيرانية سلسلة الانهيارات وتجاوز سعر الدولار في السوق المفتوحة (24000) ريال/ تومان يوم الخميس في ظل خناق اقتصادي يعيشه المواطن الإيراني بسبب العقوبات طبعا، إنما أيضا بسبب تهاوي أسعار النفط، وتفشي فيروس كورونا، وسوء إدارة السلطات الإيرانية للواقع الداخلي والانغماس في الحروب الخارجية.
أما على الجانب الصحي، قال مسؤول كبير من مجموعة العمل المكلفة بمكافحة فايروس كورونا في طهران الخميس، إن المستشفيات الإيرانية تواجه نقصا حادا في الأطقم الطبية والأسِرَّة، حيث يكافح البلد موجة ثانية قوية من جائحة كوفيد – 19.
بدأت إيران، البلد الأكثر تضررا من الجائحة في الشرق الأوسط، تخفيف إجراءات العزل العام في منتصف نيسان/ أبريل الماضي، لكن وكالة أنباء الطلبة الإيرانية نقلت عن المسؤول ويدعى رضا جليلي خشنود، الذي أصيب هو نفسه بالفايروس، قوله، إن موجة ثانية من العدوى ظهرت في مطلع يونيو وتبين أنها أخطر من الأولى.
وبين الحرائق والتفجيرات والأزمة الاقتصادية والصحية، اختار النظام الإيراني، وعلى عادته، أسلوب التسلط وإطباق الخوف على الرأي العام بإصدار الثلاثاء أحكام إعدام بحق ثلاثة متظاهرين شاركوا في احتجاجات ضد ارتفاع أسعار الوقود خلال تشرين الثاني/ نوفمبر 2019.
وعلى اثر تلك الإعدامات، شهدت إيران تظاهرات ليلية قد تكون مقدمة لشرارة موجة جديدة من الاحتجاجات، وقد أظهرت مقاطع مصورة أخرى مئات الإيرانيين في عدة مناطق، الخميس، وهم يتجمعون في الشوارع رافعين شعارات منددة بالنظام، من بينها “لا غزة ولا لبنان، أرواحنا فداء لإيران”، في إشارة إلى الأموال التي ينفقها النظام الإيراني على الميليشيات ويحرم مواطنيه منها، وهي ذات الشعارات التي رفعها المحتجون، في تظاهرات نوفمبر الماضي، التي اندلعت على خلفية رفع أسعار الوقود، وقتلت السلطات خلالها المئات، وذكرت أن الاحتجاجات رافقتها أجواء أمنية سيطرت على بهبهان، مشيرة إلى إطلاق الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين.
في المقابل، لم تشر بعد وسائل الإعلام والوكالات الإيرانية إلى التجمع الاحتجاجي لأهالي بهبهان، كما لم تعلق السلطات الإيرانية نفيا أو إثباتا، لكن القنوات الإيرانية المعارضة في الخارج تقوم بتغطية واسعة لهذه الاحتجاجات، مشيرة إلى اعتقال مواطنين، كما أفادت شبكة “نت بلوكس” المعنية بمراقبة أنشطة الإنترنت بتراجع كبير لخدمة الإنترنت في محافظة خوزستان منذ الساعة العاشرة من مساء أمس الخميس، في إشارة إلى فرض السلطات قيودا مشددة على الخدمة.
إلى ذلك، بدا أن مناطق إيرانية أخرى تعيش أيضا أجواء أمنية، حيث أشارت وسائل الإعلام الإيرانية إلى اعتقال من وصفتهم بـ”العناصر الرئيسة الداعية إلى الفوضى” في محافظة خراسان الرضوية شرقي البلاد.
وتأتي احتجاجات بهبهان ودعوات للاحتجاج في مدن إيرانية أخرى على وقع أزمة اقتصادية تعيشها البلاد منذ عامين تقريبا، بعد فرض الولايات المتحدة الأميركية عقوبات مشددة عليها.
وفاقم كورونا هذه الأزمة، ليكمل مفاعيل العقوبات الأميركية، معمقا المشاكل المعيشية للإيرانيين، حيث تشير أرقام رسمية إلى أن نحو (4) ملايين إيراني فقدوا وظائفهم أو تأثرت أعمالهم بتبعات فيروس كورونا، التي وضعت السلطات الإيرانية أمام ثنائية “الاقتصاد” و”الصحة”، لكنها مالت للأولى، لترفع القيود منذ شهرين تقريبا، وهو ما ساهم في عودة الفيروس مجددا إلى التفشي الواسع، حيث انطلقت موجة جديدة منذ ثلاثة أسابيع تقريبا، وبدأت تسجل إيران أرقاما قياسية جديدة في الوفيات والإصابات.
اشتدت المشاكل الاقتصادية خلال الآونة الأخيرة أكثر من ذي قبل بعد هبوط غير مسبوق في قيمة عملة الريال الإيراني، إذ فقدت نحو (90%) من قيمتها في غضون الأشهر الثلاثة الأخيرة، ليصل سعر صرف الدولار الأميركي إلى (240000) ريال، وهو ما تسبب بطفرة كبيرة أخرى في أسعار السلع والخدمات، ترتب عليها تراجع حاد في القوة الشرائية للمواطن الإيراني.
وتثير احتجاجات بهبهان تساؤلات عما إذا كانت بداية موجة أخرى من الاحتجاجات الاقتصادية في إيران، وسط تحذيرات وتوقعات من أوساط إيرانية رسمية وغير رسمية خلال الفترة الأخيرة من احتمال اندلاعها مجددا، داعية الحكومة الإيرانية إلى التركيز على حل المشاكل المعيشية للمواطنين، وخصوصا ذوي الدخل المحدود، الأكثر تضررا من تبعات العقوبات وكورونا، غير أن الحكومة لا تملك حلولا سحرية لمواجهة الأزمة على ضوء احتدام هذه التبعات المزدوجة من جهة، وانكماش حاد في الإيرادات والقدرات المالية لمواجهتها من جهة ثانية، كما أنه لا يلوح في الأفق أي حل للأزمة مع واشنطن أو انتهاء كورونا في البلاد، بل إن التوقعات تشير إلى أن الأزمة في طريقها لمزيد من التصعيد والتعقيد، والجائحة أيضا تتصاعد.
والسؤال الذي يطرح في هذا السياق في ظل أزمات إيران المتعددة: هل ترد طهران على استهداف منشآتها العسكرية والصناعية أم تكتفي بسلاح “الصبر الاستراتيجي”؟
رأى فريق من المتابعين للشأن الإيراني أن طهران لن تتمكن من الرد على هذه التفجيرات، فيما رأى فريق آخر أنها بدأت بالفعل بالرد بعد وقوع حريق كبير في البارجة الأمريكية “يو إس إس ريتشارد” انتهى بتدميرها.
استراتيجية الضغط الأقصى:
يقول خطار أبو دياب في جريدة العرب اللندنية: “تتلاحق في إيران أعمال أمنية ‘غامضة’ خلال الفترة الأخيرة، وترتبط من دون شك بمحاولة ضرب أو تأخير البرنامجين النووي والصاروخي، وتأتي هذه الأحداث وكأنها استكمال لاستراتيجية “الضغط الأقصى” التي تمارسها واشنطن، ولعملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني، ومن المرجح أن تكون إسرائيل وراء القيام بها بمشاركة أمريكية أو بعد ضوء أخضر أمريكي”.
ويضيف أبو دياب: “من المستبعد أن يكون الرد الإيراني مؤجلا، والاحتمال الأقوى حصول هذا الرد من قبل إحدى الأذرع الإيرانية انطلاقا من سوريا أو لبنان أو العراق، مما يضع كل الإقليم على صفيح ساخن في معركة تحديد أحجام ومصائر”.
ويتابع الكاتب: “على الجانب الإسرائيلي، يعتبر عدم إعلان المسؤولية عن تفجيرات إيران، محاولة لعدم الوصول للصراع المكشوف مع تفضيل الحرب الهجينة التي تجمع بين الحرب الإلكترونية والأعمال الأمنية وبعض الاستهدافات المحدودة”.
وفي السياق ذاته، يرى فهد الخيطان في جريدة الغد الأردنية، أنه “بدعم من الولايات المتحدة أو بدونه، يبدو جليا أن إسرائيل قد استعاضت عن المواجهة العسكرية المباشرة والمكلفة مع إيران بحرب استخباراتية وسيبرانية في العمق الإيراني لتعطيل قدرات طهران النووية”.
كما يقول الخيطان: “التفجير يشي بقدرة استخباراتية صادمة سمحت لطواقم العملاء بالوصول إلى واحد من أكثر المواقع تحصينا في إيران، وزرع قنبلة في جوفه العميق، تزامن ذلك مع سلسلة تفجيرات محيرة طالت محطات طاقة ومرافق حيوية لم يتضح بعد إن كان لها صلة بتفجير نطنز”.
ويضيف: “يذكر محللون هنا ما راهنت عليه مديرة الاستخبارات الأمريكية جينا هاسبيل، بعد اغتيال سليماني، من أن الرد الإيراني لن يتجاوز هجمات صاروخية ضد أهداف أمريكية في العراق، وهذا ما كان بالفعل، باستثناء ذلك كانت التهديدات الإيرانية مجرد حملات إعلامية جوفاء لامتصاص الغضب العام”.
التصعيد الإيراني المرتقب:
تحت عنوان “إيران تستعد لعمل كبير”، يقول ناصر قنديل، في جريدة البناء اللبنانية: “أول أمس، وقع حريق كبير انتهى بتدمير البارجة الأمريكية “يو إس إس ريتشارد”، في مرفأ سان دييغو العسكري، وسرت تكهنات باختراق سيبراني تسبب في التلاعب بمنظومات حرارية في البارجة أدى لنشوب الحريق وتعطيل أنظمة التبريد، واتجهت الكثير من أصابع الاتهام نحو إيران”.
ويضيف: “الترقب سيد الموقف خلال الأيام القليلة المقبلة، وحبس الأنفاس سيستمر حتى تعلن إيران نتائج التحقيقات، والاتصالات على أعلى المستويات لاستكشاف اتجاه هذه النتائج، وما إذا كان ثمة احتمالات بتوجيه اتهام مباشر لكيان الاحتلال، وماهية الدور المقرر، والعيون شاخصة نحو مفاعل ديمونا كهدف محتمل”.
ويتابع قنديل: “إذا سارت الأمور بهذا الاتجاه، وهو ما يعني نذر حرب كبرى تخيم على المنطقة، والوسطاء التقليديون بين إيران والغرب يقولون إن أشد المراحل خطورة تمر على المنطقة، وإن العروض لتفادي التصعيد الإيراني المرتقب إذا صحت التوقعات، قيد التداول، وأن أشياء كثيرة من طروحات كانت على الطاولة قد تغيرت”.
مرحلة جديدة من الانهيار:
أما عبد الجليل السعيد، فيقول في جريدة العين الإخبارية الإماراتية: “بات من المؤكد أن التفجيرات التي ضربت وتضرب إيران في الأيام الماضية ليست غامضة وحسب، بل تنذر بمرحلة جديدة من الانهيار داخل جمهورية الولي الفقيه، والانهيار هنا أمني بكل معنى الكلمة، كما هو سياسي واقتصادي”.
ويضيف الكاتب: “ولأن إيران دولة مغلقة لا تتمتع الصحافة فيها بأية حرية تذكر، ولا يعلم أغلب الشعب الإيراني ماذا يحصل معهم أو يجري حولهم، فإن التكهنات بحد ذاتها مشروعة، والأخبار المتناقضة رسمياً تخفي وراءها الكثير من خوف الحرس الثوري ومؤسسات المرشد العاجزة عن احتواء صدى تلك التفجيرات”.
ويتابع السعيد: “وبما أن الفلسفة الإيرانية في التعاطي مع إسرائيل تقوم على مبدأ التغاضي والنسيان والجبن، وحتى عدم الجرأة على بحث أية ردة فعل موجهة ضد إسرائيل، فإن السيناريو ذاته يتكرر مع التفجيرات الأخيرة، لأن خامنئي يتقن فقط الزج ببعض العرب من أمثال حزب الله في لبنان والحوثي الانقلابي في اليمن والحشد الشعبي في العراق، في أتون حروبه العبثية المستندة لشعارات المقاومة والممانعة الكاذبة، والتي ثبت للجميع زيفها”.
وعلى المنوال ذاته، يقول عبد الرحمن الطريري في جريدة عكاظ السعودية، إن “حالة إيران الحالية غاية في الضعف… والضعف ليس اقتصاديا فقط بل سياسيا أيضا”.
ويضيف، أن إيران تتحدث “عن الصمود كانتصار، ويحدثك حسن روحاني عن مصطلح “الصبر الاستراتيجي”، الذي لا يتجاوز كونه دعوات إلى السماء أن يغادر دونالد ترمب البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية المقبلة نهاية العام الجاري”.
ويتابع الطريري: “إيران اتهمت إسرائيل بالوقوف خلف بعض الهجمات، ولم تعترف ببعضها، لكنها لم تخبرنا إن كانت سترد على إسرائيل، أم ستستمر في انتصار الصمود”.
أن الأزمة التي تعصف بالنظام الإيراني هي أشبه بـ”وعاء مضغوط”، ما ظهر في إيران من ثغرات استخباراتية في أمن المرافئ والبرنامج النووي والمنشآت العسكرية مع الخناق الاقتصادي والنقمة الشعبية هو جديد، فصحيح أن الحرب غير التقليدية عمرها طويل مع النظام، إنما لم يرافقها هذا الكم من الضغوط، إذ يحاول النظام الإيراني ربط الأزمة بدور إسرائيلي وآخر للرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونيويورك تايمز تحدثت عن “خطة تخريب” (سابوتاج)، إنما مصدر الأزمة الأساس هو داخلي، وفي أن النقمة كبيرة من الشباب الإيراني، وطوق الخوف انكسر منذ وقت طويل.
مشاكل النظام الإيراني لم تبدأ مع دونالد ترامب، ولن تنتهي بخروجه من البيت الأبيض، فالواقع اليوم هو أمام اتفاق نووي هش، لا يريد حتى خصم ترامب، جوزيف بايدن، العودة إليه، أما الاستنزاف الاقتصادي في سوريا ولبنان والعراق واليمن، فليس مرتبط بترامب ولا بالثغرات الاستخباراتية المفتوحة على الملأ بعد مقتل سليماني.
في نفس الوقت، هشاشة الاستقرار في إيران لا تعني بالمطلق هشاشة النظام، والحديث عن تغيير في القيادة الإيرانية هو غير واقعي اليوم، فالنظام يحمل معظم الأوراق من القمع إلى الاقتصاد، وهو قد يختار التشدد في مرحلة ما بعد حسن روحاني والانعطاف يمينا أكثر نحو قيادة قريبة من الحرس الثوري الإيراني.
لكن ذلك لا يمنع المعارضة الإيرانية ممثلة بمجاهدي خلق بقيادة مريم رجوي، أن توظف أزمات إيران المعقدة لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية، وعلى ضوء ذلك ستعقد منظمة مجاهدي خلق اليوم الجمعة مؤتمرًا لدراسة الحالة التي آلت إليها إيران، وبحسب معلومات خاصة حصل عليها مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية، فإن هناك توجهًا أمريكيًا وخاصة من الكونجرس الأمريكي في الاعتراف بمنظمة مجاهدي خلق بوصفها الممثل الشرعي عن الشعب الإيراني، والسؤال.. هل ستعترف الولايات المتحدة الأمريكية بها؟
خلاصة القول:
ما تشهده إيران اليوم من تخبطات أمنية ونقمة شعبية وخناق اقتصادي ينذر بمرحلة مختلفة أمام النظام ستزيد من تسلطه في المدى المتوسط من دون ضمان أوراق حل أو انفراجات في الداخل والخارج.
وحدة الدراسات الإيرانية