المواجهة الثالثة بين تركيا وروسيا ـ ناغورنو كاراباخ

المواجهة الثالثة بين تركيا وروسيا ـ ناغورنو كاراباخ

بعد سوريا وليبيا جاء الآن دور أرمينيا وأذربيجان. تحدث المواجهة بين الجارين العدوين فتصطف روسيا خلف أرمينيا وتركيا خلف أذربيجان. وكما حدث في البلدين العربيين، تلتقيان عسكريا في الميدان وتتعاونان معا على إيجاد حل سلمي. وقد تنتقل التجربة نفسها إلى المواجهة حول إقليم ناغورنو كاراباخ الذي احتلته أرمينيا منذ عام 1993 وحتى اليوم.
في 12 من الشهر الحالي تموز/يوليو حدثت مواجهات بين الجارين المتنازعين منذ انهيار الاتحاد السوفييتي على المنطقة المعروفة باسم ناغورنو كاراباخ، التي كانت سبب اندلاع الحرب بين البلدين بين عامي 1991 و1994 في فترة الفوضى التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفكك الدولة العظمى إلى دول عديدة، وتصدع بعض الجمهوريات داخليا إلى مكوناتها العرقية.
أذربيجان دولة مسلمة لكنها دولة علمانية حسب الدستور، لا تدخل الدين في مجريات حياتها، وقد بنت علاقات قوية مع تركيا منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي، خاصة أن جارتها أرمينيا ظلت على علاقات مميزة مع الاتحاد الروسي، الذي أشرف على تدريب وتسليح الجيش الأرمني الصغير. والغريب في الأمر أن إيران تقف مع روسيا في دعم أرمينيا، رغم أن غالبية سكان أذربيجان من الشيعة. لقد استطاعت تركيا في العشرين سنة الماضية أن تبني جيشا جاهزا مدربا وقويا، أثبت جاهزيتيه عشية الاشتباكات الأخيرة، التي يتهم كل طرف الآخر بالمسؤولية عن إشعالها في رسائل موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. لقد أثبتت الاشتباكات الأخيرة، أن تجميد الصراع لا يعني نهايته، فقد انبثقت عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا مجموعة مصغرة تسمى»لجنة منسيك» نسبة إلى عاصمة روسيا البيضاء، والمكونة من روسيا والولايات المتحدة وفرنسا، لحل النزاع الأرميني الأذربيجاني بالطرق السلمية (على طريقة اللجنة الرباعية لحل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي). وقد رأت أذربيجان من البداية، أن اللجنة منحازة لصالح أرمينيا وأنها لن تحل النزاع بما يعيد الحقوق، ويخرج الاحتلال الأرميني من المناطق المتنازع عليها، والأراضي الإضافية التي احتلتها لاحقا. وقد دعيت مجموعة أخرى من الدول لمراقبة الاجتماعات بحضور طرفي الصراع. لكن المجموعة لم تحرز أي تقدم على الإطلاق.
ويبدو أن أرمينيا أرادت أن تجس نبض أذربيجان في هجومها الأخير على منطقة توفوز على طول الحدود بين البلدين، حيث قتل ثلاثة جنود أذربيجانيين وجرح أربعة. لكن جيش أذربيجان كان على أهبة الاستعداد فردّ «بقوة ردع ثأرية» كما جاء في رسالة رسمية وجهها السفير الأذربيجاني ياشار علييف، للأمين العام ومجلس الأمن يوم 13 يوليو. وأشار في رسالته إلى أن أرمينيا تحاول «أن تشرك أطرافا ثالثة في الصراع الأرميني- الأذربيجاني» في إشارة مبطنة لدور الاتحاد الروسي في الاشتباكات.

خلفيات النزاع بين أرمينيا وأذربيجان

كانت الدولتان أرمينيا وأذربيجان إقليمين تحت سيادة الاتحاد السوفييتي. ومع نهاية عام 1988 بدأت الإمبراطورية السوفييتية تتصدع، وتعود إلى مكوناتها الأصلية. فانفصلت أرمينيا في 21 أيلول/سبتمبر 1991 وانفصلت أذربيجان في 30 آب/ أغسطس 1991 لتصبح واحدة من ست دول تجمعها الثقافة والتاريخ التركيان، وتشكل معا، بتشجيع من تركيا، المنظمة الدولية للثقافة التركية (تركـْسوي)، وكان حيدر علييف أول رئيس للبلاد، ثم ورّث الحكم لابنه إلهام علييف الرئيس الحالي. تعتمد البلاد أساسا على تصدير النفط، فقد مد أنبوب نفط من أذربيجان إلى ميناء جيهان التركي لتصدير البترول منذ عام 2006، حيث يصدر مليون برميل يوميا. وقد استثمرت عائدات النفط والغاز في تحسين البنى التحتية، والصناعات والسياحة وأوضاع المواطنين الذين لا يتجاوزون عشرة ملايين.
إقليم ناغورنو كاراباخ جزء من أذربيجان وداخل أراضيها على الحدود مع أرمينيا لكن مع سنوات السيطرة السوفييتية، أصبحت غالبية سكانه من الأرمينيين. بدأت أرمينيا منذ عام 1988 بفرض هيمنتها على الإقليم، واستبعاد الأذربيجانيين في ما أطلق عليه التطهير العرقي. وبدأت المناوشات العسكرية عام 1991، واستمرت ثلاث سنوات. قامت أرمينيا بالاستيلاء على إقليم ناغورنو كراباخ، بحجة أنه أرض أرمينية، وقتل في المعارك عشرات الألوف، وتم تدمير القرى والبلدات، وتشريد ما يقرب من مليون من سكان الإقليم، الذين أصبحوا لاجئين في بلدهم. لقد استغلت أرمينيا حالة التفكك والضعف عشية الاستقلال، مدعومة بروسيا، فاحتلت سبع مناطق أخرى محاذية للإقليم تعادل 9% من البلاد، ليصبح مجموع ما اقتطعته أرمينيا من أراضي أذربيجان نحو 20%.
اعتمد مجلس الأمن نتيجة هذا الصراع، أربعة قرارات في عام 1993، كان أولها القرار 822 بتاريخ 30 نيسان/إبريل، الذي دعا في فقرته العاملة الأولى إلى «انسحاب جميع قوات الاحتلال فورا من منطقة كيلبيدجار والمناطق الأخرى الأذربيجانية، التي جرى احتلالها مؤخرا». ثم اعتمد القرار 853 في يوليو، والقرار 874 في تشرين الأول/أكتوبر ثم القرار 884 في 12 تشرين الثاني/نوفمبر الذي أدان انتهاكات أرمينيا لوقف إطلاق النار، واستئناف القتال واحتلال مناطق جديدة في أذربيجان من بينها مدينة غوراديز ومنطقة زغلان. لكن مجموعة «منسيك» توسطت لوقف القتال، واستمرت الحالة كما هي عليه، لا سلم ولا حرب كل هذا الوقت. ونحن نعرف أن تجميد الصراع لا يعني نهايته، ولا بد أن ينفجر مرة أخرى، إلى أن تتم تسويته سلميا بطريقة عادلة أو بالحسم العسكري.

أذربيجان في وضع أقوى

فشلت كل الوساطات لحل النزاع سلميا، التي اضطلعت بها الأمم المتحدة، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا ومجموعة منسيك، بدون جدوى، بسبب تعنت أرمينيا التي لا يصل سكانها إلى ثلاثة ملايين، وقد دفع هذا الموقف أذربيجان إلى تعزيزعلاقتها بتركيا والولايات المتحدة، لتحديث قدراتها العسكرية والحصول على أسلحة متطورة. تشعر أذربيجان الآن بأنها قادرة على استعادة أرضها بالقوة وبسهولة مطلقة، بعد أن بنت جيشا حديثا ومتطورا ومسلحا بطريقة متينة يشرف على تدريبه ضباط أتراك.
لقد لمست في زيارتي الأخيرة لباكو عام 2016، أن قضية الأقاليم المحتلة هي الشغل الشاغل للشعب الأذربيجاني. والتصميم على إعادتها إلى حضن الوطن أمر لا يمكن التنازل عنه إما بحل سلمي مشرف أو بالقوة. وقد أجريت مؤخرا حوارات مع الزميلة الصحافية ألماز محمود، التي كانت تعمل مع «بي بي سي» والآن تدرس في جامعة ولاية باكو وتعمل مع التلفزيون الرسمي، لأتعرف على إحساس الناس العاديين من الاشتباكات الأخيرة، وأكدت ألماز أن «ناغورنو كاراباخ جزء من أذربيجان، لا مساومة على ذلك، وهناك أربعة قرارات لمجلس الأمن الدولي تطالب بانسحاب القوات الأرمينية من الأراضي المحتلة، لم يتم الالتزام بها. يجب على القوات الأرمينية الانسحاب الفوري وغير المشروط من الأراضي المحتلة، ليس فقط من ناغورنو كاراباخ، ولكن أيضا من سبع مقاطعات محتلة محيطة بالإقليم. لقد توسطت مجموعة مينسك لتسوية النزاع من دون نجاح، حيث لم تسفر جهودها عن نتائج».

أصبحت الغالبية الساحقة من الشعب الأذربيجاني تؤمن بمقولة «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»

ويبدو أن الاشتباكات الأخيرة قد دفعت بالشعب بكافة فئاته للالتفاف حول موقف الجيش، الذي وقف وقفة قوية أمام العدوان الأرميني. وقد أكدت لي الصحافية ألماز أن الناس فاض بهم الكيل ويريدون حسم النزاع بالقوة: «انطلقت مسيرة لدعم الحكومة والجيش الوطني في وسط باكو مساء 14 يوليو. سار فيها عدة آلاف من الشباب على طول الشوارع المركزية للعاصمة، وهم يرفعون شعارات وطنية، ويلوحون بالأعلام ويهتفون » كاراباخ لنا» «المجد للجيش» «نحن جنود المستقبل» «إعلن التعبئة أيها القائد العام». وقالت إن الآلاف من أبناء وبنات أذربيجان ـ داخل الوطن وخارجه، أعلنوا أنهم جنود احتياط، بينما قدّم معوقو الحرب وقدامى المحاربين طلبات لوزارة الدفاع لاستدعائهم للخدمة العسكرية».
البلاد تغلي الآن وإعلان روسيا وقوفها إلى جانب أرمينيا دفع باتجاه تعزيز العلاقة أكثر وأكثر مع تركيا، حيث أعلن الأربعاء أن تركيا ستقوم بمناورات مشتركة مع الجيش الأذربيجاني لمدة أسبوعين تقريبا، كما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أنه لن يتخلي عن حليفته أذربيجان.
لقد راهنت أذربيجان على حل سلمي لمدة 27 سنة من دون جدوى.. وما زالت أذربيجان تسعى إلى حل عادل يجنب البلدين المواجهة، لكن الشعب لم يعد يحتمل هذا التراخي من قبل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا وغياب إمكانية حل سلمي مشرف، وأصبحت الغالبية الساحقة من الشعب الأذربيجاني تؤمن بمقولة «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» كما قالت محدثتي الأذربيجانية.

عبدالحميد صيام

القدس العربي